[ ص: 18 ] وقال قدس الله روحه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما . قاعدة } خلافة النبوة ثلاثون سنة ; ثم يؤتي الله ملكه - أو الملك - من يشاء لفظ قال النبي صلى الله عليه وسلم { أبي داود من رواية عبد الوارث والعوام { } { تكون الخلافة ثلاثين عاما ثم يكون الملك } وهو حديث مشهور من رواية تكون الخلافة ثلاثين سنة ثم تصير ملكا حماد بن سلمة وعبد الوارث بن سعيد والعوام بن حوشب وغيره عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أهل السنن : كأبي داود وغيره واعتمد عليه وغيره في الإمام أحمد الخلفاء الراشدين الأربعة وثبته تقرير خلافة أحمد ; واستدل به على من توقف في خلافة علي ; من [ ص: 19 ] أجل افتراق الناس عليه ; حتى قال أحمد : من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله ; ونهى عن مناكحته وهو متفق عليه بين الفقهاء وعلماء السنة وأهل المعرفة والتصوف وهو مذهب العامة .
وإنما يخالفهم في ذلك بعض [ أهل ] الأهواء من أهل الكلام ونحوهم : كالرافضة الطاعنين في خلافة الثلاثة أو الخوارج الطاعنين في خلافة الصهرين المنافيين : عثمان وعلي أو بعض الناصبة النافين لخلافة علي أو بعض الجهال من المتسننة الواقفين في خلافته ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من هجرته وإلى عام ثلاثين سنة كان إصلاح ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي السيد بين فئتين من المؤمنين بنزوله عن الأمر عام إحدى وأربعين في شهر جمادى الأولى وسمي " عام الجماعة " لاجتماع الناس على " معاوية " وهو أول الملوك . وفي الحديث الذي رواه مسلم : { } وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور في السنن وهو صحيح : { ستكون خلافة نبوة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة ثم يكون ملك وجبرية ثم يكون ملك عضوض الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور ; فإن كل بدعة ضلالة } . [ ص: 20 ] ويجوز تسمية من بعد إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " خلفاء " وإن كانوا ملوكا ; ولم يكونوا خلفاء الأنبياء بدليل ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أبي هريرة بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر ; قالوا فما تأمرنا ؟ قال : فوا ببيعة الأول فالأول ; ثم أعطوهم حقهم ; فإن الله سائلهم عما استرعاهم } . فقوله : " فتكثر " دليل على من سوى الراشدين فإنهم لم يكونوا كثيرا . كانت
وأيضا قوله : { } دل على أنهم يختلفون ; والراشدون لم يختلفوا . وقوله : { فوا ببيعة الأول فالأول } دليل على مذهب فأعطوهم حقهم ; فإن الله سائلهم عما استرعاهم أهل السنة ; في . وقد ذكرت في غير هذا الموضوع أن مصير الأمر إلى الملوك ونوابهم من الولاة ; والقضاة والأمراء ليس لنقص فيهم فقط بل لنقص في الراعي والرعية جميعا ; فإنه " كما تكونون : يولى عليكم " وقد قال الله تعالى : { إعطاء الأمراء حقهم ; من المال والمغنم وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا } وقد استفاض وتقرر في غير هذا الموضع ما قد أمر به صلى الله عليه وسلم من طاعة الأمراء في غير معصية الله ; ومناصحتهم والصبر عليهم في حكمهم وقسمهم ; والغزو معهم والصلاة خلفهم ونحو ذلك من [ ص: 21 ] متابعتهم في الحسنات التي لا يقوم بها إلا هم ; فإنه من " باب التعاون على البر والتقوى " وما نهى عنه من تصديقهم بكذبهم وإعانتهم على ظلمهم وطاعتهم في معصية الله ونحو ذلك ; مما هو من " باب التعاون على الإثم والعدوان " وما أمر به أيضا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : لهم ولغيرهم على الوجه المشروع ; وما يدخل في ذلك من تبليغ رسالات الله إليهم ; بحيث لا يترك ذلك جبنا ولا بخلا ولا خشية لهم ولا اشتراء للثمن القليل بآيات الله ; ولا يفعل أيضا للرئاسة عليهم ولا على العامة ولا للحسد ولا للكبر ولا للرياء لهم ولا للعامة . ولا يزال المنكر بما هو أنكر منه . بحيث يخرج عليهم بالسلاح ; وتقام الفتن كما هو معروف من أصول أهل السنة والجماعة كما دلت عليه النصوص النبوية ; لما في ذلك من الفساد الذي يربو على فساد ما يكون من ظلمهم ; بل يطاع الله فيهم وفي غيرهم ويفعل ما أمر به ويترك ما نهى عنه .
وهذه جملة تفصيلها يحتاج إلى بسط كثير والغرض هنا ; فإنه مقام خطر ; وذلك أن خبره بانقضاء " خلافة النبوة " فيه الذم للملك والعيب له ; لا سيما وفي حديث { بيان " جماع الحسنات والسيئات " الواقعة بعد خلافة النبوة : في الإمارة وفي تركها أبي [ ص: 22 ] بكرة : أنه استاء للرؤيا وقال : خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء } . ثم النصوص الموجبة لنصب الأئمة والأمراء وما في الأعمال الصالحة التي يتولونها من الثواب : حمد لذلك وترغيب فيه ; فيجب تخليص محمود ذلك من مذمومه وفي حكم اجتماع الأمرين وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } فإذا كان الأصل في ذلك شوب الولاية ; من الإمارة والقضاء والملك : هل هو جائز في الأصل والخلافة مستحبة ؟ أم ليس بجائز إلا لحاجة من نقص علم أو نقص قدرة بدونه ؟ فنحتج بأنه ليس بجائز في الأصل بل الواجب خلافة النبوة لقوله صلى الله عليه وسلم { إن الله خيرني بين أن أكون عبدا رسولا وبين أن أكون نبيا ملكا فاخترت أن أكون عبدا رسولا الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها ; وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فكل بدعة ضلالة } بعد قوله : { عليكم بسنتي وسنة } فهذا أمر وتحضيض على لزوم سنة الخلفاء وأمر بالاستمساك بها وتحذير من المحدثات المخالفة لها وهذا الأمر منه والنهي : دليل بين في الوجوب . [ ص: 23 ] ثم اختص من ذلك قوله : { من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا أبي بكر وعمر } فهذان أمر بالاقتداء بهما اقتدوا بالذين من بعدي والخلفاء الراشدون أمر بلزوم سنتهم . وفي هذا تخصيص للشيخين من وجهين " أحدهما " أن " السنة " ما سنوه للناس .
وأما " القدوة " فيدخل فيها الاقتداء بهما فيما فعلاه مما لم يجعلوه سنة " الثاني " أن السنة أضافها إلى الخلفاء ; لا إلى كل منهم . فقد يقال : أما ذلك فيما اتفقوا عليه ; دون ما انفرد به بعضهم . وأما القدوة فعين القدوة بهذا وبهذا . وفي هذا الوجه نظر . ويستفاد من هذا . أن ما فعله عثمان وعلي من الاجتهاد الذي سبقهما بما هو أفضل منه أبو بكر وعمر ودلت النصوص وموافقة جمهور الأمة على رجحانه وكان سببه افتراق الأمة : لا يؤمر بالاقتداء بهما فيه ; إذ ليس ذلك من سنة الخلفاء ; وذلك أن أبا بكر وعمر ساسا الأمة بالرغبة والرهبة وسلما من التأويل في الدماء والأموال . وعثمان رضي الله عنه غلب الرغبة وتأول في الأموال . وعلي غلب الرهبة وتأول في الدماء . وأبو بكر وعمر كمل زهدهما في المال والرياسة . وعثمان كمل زهده في الرياسة . وعلي كمل زهده في المال . [ ص: 24 ] وأيضا فكون النبي صلى الله عليه وسلم استاء للملك بعد خلافة النبوة دليل على أنه متضمن ترك بعض الدين الواجب . وقد يحتج من يجوز " الملك " بالنصوص التي منها { لمعاوية : إن ملكت فأحسن } ونحو ذلك وفيه نظر . ويحتج بأن قوله عمر أقر معاوية لما قدم الشام على ما رآه من أبهة الملك لما ذكر له المصلحة فيه فإن عمر قال : لا آمرك ولا أنهاك ويقال في هذا : إن عمر لم ينهه ; لا أنه أذن له في ذلك ; لأن معاوية ذكر وجه الحاجة إلى ذلك ولم يثق عمر بالحاجة . فصار محل اجتهاد في الجملة فهذان القولان متوسطان : أن يقال : الخلافة واجبة وإنما يجوز الخروج عنها بقدر الحاجة . أو أن يقال : يجوز قبولها من الملك بما ييسر فعل المقصود بالولاية ولا يعسره ; إذ ما يبعد المقصود بدونه لا بد من إجازته وأما [ ملك ] فإيجابه أو استحبابه محل اجتهاد .
وهنا طرفان " أحدهما " من يوجب ذلك في كل حال وزمان وعلى كل أحد ويذم من خرج عن ذلك مطلقا أو لحاجة كما هو حال أهل البدع من الخوارج والمعتزلة وطوائف من المتسننة والمتزهدة . " والثاني " [ ص: 25 ] من يبيح الملك مطلقا ; من غير تقيد بسنة الخلفاء ; كما هو فعل الظلمة والإباحية وأفراد المرجئة . وهذا تفصيل جيد وسيأتي تمامه . و " تحقيق الأمر " أن يقال : : إما أن يكون لعجز العباد عن خلافة النبوة أو اجتهاد سائغ أو مع القدرة على ذلك علما وعملا ; فإن كان مع العجز علما أو عملا كان ذو الملك معذورا في ذلك . وإن كانت خلافة النبوة واجبة مع القدرة ; كما تسقط سائر الواجبات مع العجز كحال انتقال الأمر عن خلافة النبوة إلى الملك النجاشي لما أسلم وعجز عن إظهار ذلك في قومه ; بل حال يوسف الصديق تشبه ذلك من بعض الوجوه ; لكن الملك كان جائزا لبعض الأنبياء كداود وسليمان ويوسف . وإن كان مع القدرة علما وعملا وقدر أن خلافة النبوة مستحبة ليست واجبة وأن اختيار الملك جائز في شريعتنا كجوازه في غير شريعتنا : فهذا التقدير إذا فرض أنه حق فلا إثم على الملك العادل أيضا . وهذا الوجه قد ذكره في " المعتمد " لما تكلم في تثبيت خلافة القاضي أبو يعلى معاوية وبنى ذلك على ظهور إسلامه وعدالته وحسن سيرته وأنه ثبتت إمامته بعد موت علي لما عقدها الحسن له وسمي ذلك " عام الجماعة " وذكر حديث : { عبد الله بن مسعود } قال : قال تدور رحا الإسلام على رأس خمس [ ص: 26 ] وثلاثين أحمد في رواية : يروي عن ابن الحكم الزهري أن معاوية كان أمره خمس سنين لا ينكر عليه شيء ; فكان هذا على حديث النبي صلى الله عليه وسلم " خمس وثلاثين سنة " : قال : قلت ابن الحكم لأحمد : من قال حديث ابن مسعود { } إنها من مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لقد أخبر هذا وما عليه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يصف الإسلام بسير هو بالجناية إنما يصف ما يكون بعده من السنين . تدور رحا الإسلام لخمس وثلاثين
قال : وظاهر هذا من كلام أحمد أنه أخذ بظاهر الحديث ; وأن خلافة معاوية كانت من جملة الخمس والثلاثين وذكر أن رجلا سأل أحمد عن الخلافة فقال : كل بيعة كانت بالمدينة فهي خلافة نبوة لنا . قال القاضي : وظاهر هذا : أن ما كان بغير المدينة لم يكن خلافة نبوة . قلت : نصوص أحمد على أن الخلافة تمت بعلي كثيرة جدا . ثم عارض القاضي ذلك بقوله : { } قال السائل : فلما خص الخلافة بعده بثلاثين سنة : كان آخرها آخر أيام علي وأن بعد ذلك يكون ملكا : دل على أن ذلك ليس بخلافة فأجاب القاضي : بأنه يحتمل أن يكون المراد به " الخلافة " التي لا يشوبها ملك بعده " ثلاثون [ ص: 27 ] سنة " وهكذا كانت خلافة الخلفاء الأربعة . الخلافة ثلاثون سنة ثم تصير ملكا ومعاوية : قد شابها الملك ; وليس هذا قادحا في خلافته ; كما أن ملك سليمان لم يقدح في نبوته وإن كان غيره من الأنبياء فقيرا . قلت : فهذا يقتضي أن جائز في شريعتنا وأن ذلك لا ينافي العدالة وإن كانت الخلافة المحضة أفضل . وكل من انتصر شوب الخلافة بالملك لمعاوية وجعله مجتهدا في أموره ولم ينسبه إلى معصية : فعليه أن يقول بأحد القولين : إما جواز شوبها بالملك أو عدم اللوم على ذلك فيتجه إذا قال إن خلافة النبوة واجبة ; فلو قدر فإن عمل سيئة فكبيرة وإن كان دينا ; أو لأن الفاسق من غلبت سيئاته حسناته ; وليس كذلك وهذا رحمته بالملوك العادلين ; إذ هم في الصحابة من يقتدى به .
وأما أهل البدع كالمعتزلة : فيفسقون معاوية لحرب علي وغير ذلك ; بناء على أنه فعل كبيرة وهي توجب التفسيق فلا بد من منع إحدى المقدمتين . ثم إذا ساغ هذا للملوك : ساغ للقضاة والأمراء ونحوهم . وأما إذا كانت خلافة النبوة واجبة وهي مقدورة ; وقد تركت : فترك الواجب سبب للذم والعقاب . ثم هل تركها كبيرة أو صغيرة ؟ [ ص: 28 ] إن كان صغيرة لم يقدح في العدالة وإن كان كبيرة ففيه القولان . لكن يقال هنا : إذا كان القائم بالملك والإمارة يفعل من الحسنات المأمور بها ويترك من السيئات المنهي عنها ما يزيد به ثوابه على عقوبة ما يتركه من واجب أو يفعله من محظور : فهذا قد ترجحت حسناته على سيئاته ; فإذا كان غيره مقصرا في هذه الطاعة التي فعلها مع سلامته عن سيئاته ; فله " ثلاثة أحوال " إما أن يكون الفاضل من حسنات الأمير أكثر من مجموع حسنات هذا أو أقل . فإن كانت فاضلة أكثر كان أفضل وإن كان أقل كان مفضولا وإن تساويا تكافآ .
هذا موجب العدل ; ومقتضى نصوص الكتاب والسنة في الثواب والعقاب . وهو مبني على قول من يعتبر الموازنة والمقابلة في الجزاء ; وفي العدالة أيضا . وأما من يقول : إنه بالكبيرة الواحدة يستحق الوعيد ; ولو كان له حسنات كثيرة عظيمة : فلا يجيء هذا وهو قول طائفة من العلماء في العدالة . والأول أصح على ما تدل عليه النصوص . ويتفرع من هنا " مسألة " وهو ما إذا كان : فلها صورتان : [ ص: 29 ] " إحداهما " إذا لم يمكن إلا ذلك فهنا لا يبقى سيئة فإن ما لا يتم الواجب ; أو المستحب إلا به : فهو واجب أو مستحب . ثم إن كان مفسدته دون تلك المصلحة لم يكن محظورا كأكل الميتة للمضطر ونحو ذلك من الأمور المحظورة التي تبيحها الحاجات كلبس الحرير في البرد ونحو ذلك . وهذا باب عظيم . فإن كثيرا من الناس يستشعر سوء الفعل ; ولا ينظر إلى الحاجة المعارضة له التي يحصل بها من ثواب الحسنة ما يربو على ذلك ; بحيث يصير المحظور مندرجا في المحبوب أو يصير مباحا إذا لم يعارضه إلا مجرد الحاجة كما أن من الأمور المباحة ; بل والمأمور بها إيجابا أو استحبابا : ما يعارضها مفسدة راجحة تجعلها محرمة أو مرجوحة كالصيام للمريض وكالطهارة بالماء لمن يخاف عليه الموت كما قال صلى الله عليه وسلم { لا يتأتى له فعل الحسنة الراجحة إلا بسيئة دونها في العقاب } . وعلى هذا الأصل يبنى جواز قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال كما يجوز ترك بعض واجبات الشريعة وارتكاب بعض محظوراتها للضرورة ; وذلك فيما إذا وقع العجز عن بعض سنتهم أو وقعت الضرورة إلى بعض ما نهوا عنه ; بأن تكون الواجبات المقصودة بالإمارة لا تقوم إلا بما مضرته أقل . العدول أحيانا عن بعض سنة الخلفاء
[ ص: 30 ] وهكذا " مسألة الترك " كما قلناه أولا وبينا أنه لا يخالفه إلا أهل البدع ونحوهم من أهل الجهل والظلم . " والصورة الثانية " إذا كان يمكن فعل الحسنات بلا سيئة ; لكن بمشقة لا تطيعه نفسه عليها أو بكراهة من طبعه بحيث لا تطيعه نفسه إلى فعل تلك الحسنات الكبار المأمور بها إيجابا أو استحبابا إن لم يبذل لنفسه ما تحبه من بعض الأمور المنهي عنها التي إثمها دون منفعة الحسنة فهذا القسم واقع كثيرا : في أهل الإمارة والسياسة والجهاد وأهل العلم والقضاء والكلام ; وأهل العبادة والتصوف وفي العامة . مثل من لا تطيعه نفسه إلى القيام بمصالح الإمارة - من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود وأمن السبل وجهاد العدو وقسمة المال - إلا بحظوظ منهي عنها من الاستئثار ببعض المال ; والرياسة على الناس والمحاباة في القسم وغير ذلك من الشهوات وكذلك في الجهاد : لا تطيعه نفسه على الجهاد إلا بنوع من التهور . وفي العلم لا تطيعه نفسه على تحقيق علم الفقه وأصول الدين إلا بنوع من المنهي عنه من الرأي والكلام . ولا تطيعه نفسه على تحقيق علم العبادة المشروعة والمعرفة المأمور بها إلا بنوع من الرهبانية . فهذا القسم كثر في دول الملوك ; إذ هو واقع فيهم وفي كثير من أمرائهم وقضاتهم وعلمائهم وعبادهم . أعني أهل زمانهم . وبسببه [ ص: 31 ] نشأت الفتن بين الأمة . فأقوام نظروا إلى ما ارتكبوه من الأمور المنهي عنها ; فذموهم وأبغضوهم . وأقوام نظروا إلى ما فعلوه من الأمور المأمور بها فأحبوهم . ثم الأولون ربما عدوا حسناتهم سيئات . والآخرون ربما جعلوا سيئاتهم حسنات . وقد تقدم أصل هذه المسألة وهو أنه إذا تعسر فعل الواجب في الإمارة إلا بنوع من الملك : فهل يكون الملك مباحا كما يباح عند التعذر ؟ ذكرنا فيه القولين ; فإن أقيم التعسر مقام التعذر : لم يكن ذلك إثما وإن لم يقم كان إثما .
وأما ما لا تعذر فيه ولا تعسر : فإن الخروج فيه عن سنة الخلفاء اتباع للهوى . " فالتحقيق " أن الحسنات : حسنات والسيئات : سيئات وهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا . وحكم الشريعة أنهم لا يؤذن لهم فيما فعلوه من السيئات ولا يؤمرون به . ولا يجعل حظ أنفسهم عذرا لهم في فعلهم ; إذا لم تكن الشريعة عذرتهم ; لكن يؤمرون بما فعلوه من الحسنات ويحضون على ذلك ; ويرغبون فيه . وإن علم أنهم لا يفعلونه إلا بالسيئات المرجوحة ; كما يؤمر الأمراء بالجهاد ; وإن علم أنهم لا يجاهدون إلا بنوع من الظلم الذي تقل مفسدته بالنسبة إلى مصلحة الجهاد . ثم إذا علم أنهم إذا نهوا عن تلك السيئات تركوا الحسنات الراجحة الواجبة لم ينهوا عنها ; لما في النهي عنها من مفسدة ترك الحسنات الواجبة ; إلا أن يمكن الجمع بين الأمرين فيفعل حينئذ تمام الواجب كما كان [ ص: 32 ] يستعمل من فيه فجور ; لرجحان المصلحة في عمله ; ثم يزيل فجوره بقوته وعدله . ويكون ترك النهي عنها حينئذ : مثل ترك الإنكار باليد أو بالسلاح إذا كان فيه مفسدة راجحة على مفسدة المنكر . عمر بن الخطاب
فإذا كان النهي مستلزما في القضية المعينة لترك المعروف الراجح : كان بمنزلة أن يكون مستلزما لفعل المنكر الراجح كمن أسلم على أن لا يصلي إلا صلاتين كما هو مأثور عن [ بعض من أسلم على عهد ] النبي صلى الله عليه وسلم أو أسلم بعض الملوك المسلطين وهو يشرب الخمر أو يفعل بعض المحرمات ولو نهى عن ذلك ارتد عن الإسلام . ففرق بين ترك العالم أو الأمير لنهي بعض الناس عن الشيء إذا كان في النهي مفسدة راجحة وبين إذنه في فعله . وهذا يختلف باختلاف الأحوال . ففي حال أخرى يجب إظهار النهي : إما لبيان التحريم واعتقاده والخوف من فعله . أو لرجاء الترك . أو لإقامة الحجة بحسب الأحوال ; ولهذا تنوع حال النبي صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه وجهاده وعفوه ; وإقامته الحدود وغلظته ورحمته .