الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 36 ] وقال شيخ الإسلام قدس الله روحه : اعلم أن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ; ليظهره على الدين كله وأكمل لأمته الدين وأتم عليهم النعمة وجعله على شريعة من الأمر وأمره أن يتبعها ولا يتبع سبيل الذين لا يعلمون وجعل كتابه مهيمنا على ما بين يديه من الكتب ومصدقا لها وجعل له شرعة ومنهاجا وشرع لأمته سنن الهدى ; ولن يقوم الدين إلا بالكتاب والميزان والحديد .

                كتاب يهدي به وحديد ينصره كما قال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس } فالكتاب به يقوم العلم والدين . والميزان به تقوم الحقوق في العقود المالية والقبوض .

                والحديد به تقوم الحدود على الكافرين والمنافقين . ولهذا كان في الأزمان المتأخرة الكتاب للعلماء والعباد .

                والميزان للوزراء والكتاب وأهل الديوان . والحديد للأمراء والأجناد . والكتاب له الصلاة ; والحديد له الجهاد ; ولهذا كان أكثر الآيات والأحاديث النبوية في الصلاة والجهاد وكان { النبي صلى الله عليه وسلم يقول في عيادة المريض : اللهم اشف عبدك يشهد لك صلاة ; وينكأ لك عدوا } وقال عليه الصلاة والسلام { رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله } [ ص: 37 ] ولهذا جمع بينهما في مواضع من القرآن ; كقوله تعالى : { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } .

                والصلاة أول أعمال الإسلام ; وأصل أعمال الإيمان ; ولهذا سماها إيمانا في قوله : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي صلاتكم إلى بيت المقدس .

                هكذا نقل عن السلف وقال تعالى : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله } وقال : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } فوصفهم بالمحبة التي هي حقيقة الصلاة كما قال : { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا } فوصفهم بالشدة على الكفار والضلال .

                وفي الصحيح { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي العمل أفضل ؟ قال : إيمان بالله وجهاد في سبيله فقيل : ثم ماذا ؟ قال : ثم حج مبرور } مع قوله في الحديث الصحيح { لما سأله ابن مسعود : أي العمل أفضل ؟ قال الصلاة في وقتها قال ثم ماذا ؟ قال : بر الوالدين قال : ثم ماذا ؟ قال : الجهاد في سبيل الله } فإن قوله " إيمان بالله " دخل فيه الصلاة ; ولم يذكر في الأول بر الوالدين ; إذ ليس لكل أحد والدان . فالأول مطلق والثاني مقيد بمن له والدان . [ ص: 38 ] ولهذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر خلفائه الراشدين ومن سلك سبيلهم من ولاة الأمور - في الدولة الأموية والعباسية - أن الإمام يكون إماما في هذين الأصلين جميعا : الصلاة والجهاد .

                فالذي يؤمهم في الصلاة يؤمهم في الجهاد وأمر الجهاد والصلاة واحد في المقام والسفر وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استعمل رجلا على بلد : مثل عتاب بن أسيد على مكة وعثمان بن أبي العاص على الطائف . وغيرهما : كان هو الذي يصلي بهم ويقيم الحدود وكذلك إذا استعمل رجلا على مثل غزوة ; كاستعماله زيد بن حارثة وابنه أسامة وعمرو بن العاص وغيرهم : كان أمير الحرب هو الذي يصلي بالناس ; ولهذا استدل المسلمون بتقديمه أبا بكر في الصلاة على أنه قدمه في الإمامة العامة . وكذلك كان أمراء " الصديق " - كيزيد بن أبي سفيان وخالد بن الوليد وشرحبيل بن حسنة . وعمرو بن العاص وغيرهم - أمير الحرب هو إمام الصلاة . وكان نواب " عمر بن الخطاب " كاستعماله على الكوفة عمار بن ياسر على الحرب والصلاة وابن مسعود على القضاء وبيت المال وعثمان بن حنيف على الخراج . ومن هنا أخذ الناس ولاية الحرب وولاية الخراج وولاية القضاء فإن عمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين فلما انتشر المؤمنون وغلبوا الكافرين على البلاد وفتحوها واحتاجوا إلى زيادة في الترتيب : وضع [ ص: 39 ] لهم " الديوان " ديوان الخراج للمال المستخرج وديوان العطاء والنفقات للمال المصروف ومصر لهم الأمصار : فمصر الكوفة والبصرة ومصر الفسطاط ; فإنه لم يؤثر أن يكون بينه وبين جند المسلمين نهر عظيم كدجلة والفرات والنيل ; فجعل هذه الأمصار مما يليه .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية