[ ص: 42 ] فصل في قال الله تعالى : { " الخلافة والسلطان " وكيفية كونه ظل الله في الأرض وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } وقال الله تعالى : { يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } . وقوله : { إني جاعل في الأرض خليفة } يعم آدم وبنيه ; لكن الاسم متناول لآدم عينا كقوله : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } وقوله : { خلق الإنسان من صلصال كالفخار } { وخلق الجان من مارج من نار } وقوله : { وبدأ خلق الإنسان من طين } { ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين } { ثم جعلناه نطفة في قرار مكين } إلى أمثال ذلك .
ولهذا كان بين " داود وآدم " من المناسبة ما أحب به داود حين أراه ذريته وسأل عن عمره ؟ فقيل : أربعون سنة . فوهبه من عمره الذي هو ألف سنة ستين سنة . والحديث صحيح رواه الترمذي وغيره وصححه ; ولهذا كلاهما ابتلي بما ابتلاه به من الخطيئة كما أن كلا منهما [ ص: 43 ] مناسبة للأخرى ; إذ جنس الشهوتين واحد ورفع درجته بالتوبة العظيمة التي نال بها من محبة الله له وفرحه به ما نال ويذكر عن كل منهما من البكاء والندم والحزن ما يناسب بعضه بعضا . "
والخليفة " هو من كان خلفا عن غيره . فعيلة بمعنى فاعلة . كان { } وقال صلى الله عليه وسلم { النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر يقول : اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل } وقال : { من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا } وفي القرآن : { أوكلما خرجنا في الغزو خلف أحدهم وله نبيب كنبيب التيس يمنح إحداهن اللبنة من اللبن لئن أظفرني الله بأحد منهم لأجعلنه نكالا سيقول لك المخلفون من الأعراب } وقوله : { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله } . والمراد " بالخليفة " أنه خلف من كان قبله من الخلق .
والخلف فيه مناسبة كما كان أبو بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه خلفه على أمته بعد موته وكما { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر لحج أو عمرة أو غزوة يستخلف على المدينة من يكون خليفة له مدة معينة } . فيستخلف تارة وتارة غيره { ابن أم مكتوم في غزوة علي بن أبي طالب تبوك . } وتسمى الأمكنة التي يستخلف فيها الإمام " مخاليف " مثل : مخاليف واستخلف اليمن ومخاليف أرض الحجاز ومنه الحديث : { حيث خرج من مخلاف إلى مخلاف } ومنه قوله تعالى { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم } وقوله تعالى { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا } - إلى قوله تعالى - { ثم جعلناكم خلائف في الأرض } ومنه قوله تعالى { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } الآية .
وقد ظن بعض القائلين الغالطين - كابن عربي - أن " الخليفة " هو الخليفة عن الله مثل نائب الله ; وزعموا أن هذا بمعنى أن يكون الإنسان مستخلفا وربما فسروا " تعليم آدم الأسماء كلها " التي جمع معانيها الإنسان . ويفسرون " خلق آدم على صورته " بهذا المعنى أيضا وقد أخذوا من الفلاسفة قولهم : الإنسان هو العالم الصغير .
وهذا قريب . وضموا إليه أن الله هو العالم الكبير ; بناء على أصلهم الكفري في وحدة الوجود وأن الله هو عين وجود المخلوقات . فالإنسان من بين المظاهر هو الخليفة الجامع للأسماء والصفات ويتفرع على هذا ما يصيرون إليه من دعوى الربوبية والألوهية المخرجة لهم إلى الفرعونية والقرمطية والباطنية وربما جعلوا " الرسالة " مرتبة من المراتب وأنهم أعظم منها فيقرون بالربوبية والوحدانية والألوهية ; وبالرسالة ويصيرون في الفرعونية .
هذا إيمانهم . أو يخرجون في أعمالهم أن يصيروا ( سدى لا أمر عليهم ولا نهي ; ولا إيجاب ولا تحريم . [ ص: 45 ] والله لا يجوز له خليفة ; ولهذا لما قالوا لأبي بكر : يا خليفة الله قال : لست بخليفة الله ; ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبي ذلك . بل هو سبحانه يكون خليفة لغيره قال النبي صلى الله عليه وسلم { } وذلك لأن الله حي شهيد مهيمن قيوم رقيب حفيظ غني عن العالمين ليس له شريك ولا ظهير ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه . اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل اللهم اصحبنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا
والخليفة إنما يكون عند عدم المستخلف بموت أو غيبة ويكون لحاجة المستخلف إلى الاستخلاف . وسمي " خليفة " لأنه خلف عن الغزو وهو قائم خلفه وكل هذه المعاني منتفية في حق الله تعالى وهو منزه عنها ; فإنه حي قيوم شهيد لا يموت ولا يغيب وهو غني يرزق ولا يرزق يرزق عباده وينصرهم ويهديهم ويعافيهم : بما خلقه من الأسباب التي هي من خلقه والتي هي مفتقرة إليه كافتقار المسببات إلى أسبابها . فالله هو الغني الحميد له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما { يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن } { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } ولا يجوز أن يكون أحد خلفا منه ولا يقوم مقامه ; لأنه لا سمي له ولا كفء له . فمن جعل له خليفة فهو مشرك به . وأما الحديث النبوي { } وهذا صحيح فإن الظل مفتقر إلى آو وهو رفيق له [ ص: 46 ] مطابق له نوعا من المطابقة والآوي إلى الظل المكتنف بالمظل صاحب الظل فالسلطان عبد الله مخلوق مفتقر إليه لا يستغني عنه طرفة عين ; وفيه من القدرة والسلطان والحفظ والنصرة وغير ذلك من معاني السؤدد والصمدية التي بها قوام الخلق ما يشبه أن يكون ظل الله في الأرض وهو أقوى الأسباب التي بها يصلح أمور خلقه وعباده فإذا صلح ذو السلطان صلحت أمور الناس وإذا فسد فسدت بحسب فساده ; ولا تفسد من كل وجه ; بل لا بد من مصالح ; إذ هو ظل الله ; لكن الظل تارة يكون كاملا مانعا من جميع الأذى . السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل ضعيف وملهوف
وتارة لا يمنع إلا بعض الأذى . وأما إذا عدم الظل فسد الأمر كعدم سر الربوبية التي بها قيام الأمة الإنسانية . والله تعالى أعلم .
7 7