وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فصل جليل القدر . فيها معنى الطلب والخبر ; وكذلك الوعد والوعيد بخلاف الخبر المحض كقوله { اليمين المتضمنة حضا أو منعا لنفسه كقوله ; لأفعلن ولا أفعل ابن مريم حكما عدلا وإماما مقسطا } أو والله ليقدمن الركب . فإن هذا إخبار محض بأمر سيكون كما يخبر عن الماضي بمثل ذلك ; وبخلاف الطلب المحض ; كقوله لغيره : افعل أو بالله افعل ونحو ذلك . إذا لم يكن منه إلا مجرد الطلب وهو لا يدري أيطيعه أم يعصيه ; ولهذا لا يحسن الاستثناء في هذا الضرب ولا كفارة فيه لعدم المخالفة [ ص: 308 ] فإنه طلب محض مؤكد بالله كقوله : سألتك بالله إلا ما فعلت أو سألتك بالله لا تفعل . فأما إذا كان المخصوص أو الممنوع ممن يغلب على ظنه موافقته له - كعبده وزوجته وولده - فهو كنفسه فيها معنى الطلب والخبر ; فإنه لكونه مطيعا له في العادة جرى مجرى طاعة نفسه لنفسه فطلب الفعل منهما طلبا قرنه بالإخبار عن كونه . فقوله : لأقومن غدا . يتضمن [ أمرين ] " أحدهما " أني مريد القيام غدا . والذي نفسي بيده لينزلن فيكم
و " الثاني " سيكون القيام غدا ; بخلاف القسم الخبري المحض فإنه بمعنى سيكون وبخلاف القسم الطلبي المحض فإنه بمعنى أريد منك وأطلب منك أن تقوم والحنث في اليمين لم يجئ لمخالفة المطلوب كما تقدم في الطلب المحض وإنما جاء لمخالفة الخبر كما لو كان خبرا محضا عن مستقبل والاستثناء يعلق الفعل بالمشيئة فيصير المعنى ليكونن هذا إن شاء الله فإن لم يشأ الله لم يكن مخبرا بكونه فلا مخالفة فلا حنث ; ولهذا يصح الاستثناء " فالخبر المحض " كقوله : " لأطوفن الليلة على تسعين امرأة فلتأتين كل امرأة بفارس يقاتل في سبيل الله " والولادة ليست من فعله المقدور عليه وكما تقول : والله ليجيء زيد إن شاء الله . فصار لقائل : لأفعلن كذا إن شاء الله " ثلاث نيات " [ ص: 309 ] " تارة " يكون غرضه تعليق الإرادة والمعنى إن شاء الله كنت الساعة مريدا له وطالبا ; وإلا فلا . فهذا لا يصح أن يكون مريدا ولا ترتفع الكفارة بهذا وحده كما في قوله : أنت طالق إن شئت فقالت قد شئت إن شئت . أن المشيئة لا يصح تعليقها فكذا هذا . فمتى قال هذا لم تكن إرادته حاصلة فهذا مثل الذي يطلب منه شيء فيقول : أعطيك إن شاء الله . فلا وعد له وإذا نوى هذا في اليمين صح لكن لا يرفع الكفارة ; لأن مخالفة الطلب لم توجب الكفارة وإنما أوجبه مخالفة الخبر فلو كان خبرا لا طلب معه غير تعليق وجبت الكفارة . فأكثر ما في هذا انتفاء الطلب والحض من اليمين .
" الثاني " أن يكون غرضه تعليق الإخبار . والمعنى أن قيامي كائن إن شاء الله أو أن قيامك كائن إن شاء الله فأنا مخبر بوقوعه إن شاء الله وقوعه وإن لم يشأ فلا أخبر به . وإذا لم يخبر به فلا مخالفة فلا حنث وإن كنت مريدا له الساعة جزما فهذا هو المعنى الذي يرفع الكفارة فكأنه قال : أنا شاك في الوقوع فلست أخبر بوقوعه جزما وإنما أخبر بوقوعه عند هذه الصفة . كقوله : لأقومن إن قدم زيد وإن أعطيتني مائة ونحو ذلك وهو وعد أو وعيد معلق بشرط وإن كان الواعد أو المتواعد مريدا في الحال لإنفاذه ; ولهذا قلنا إن لا يقدح ; لأن التعليق عاد إلى الإخبار لا إلى الإرادة . ومن الفقهاء [ ص: 310 ] من قال : هذا يقدح في إرادته . وهؤلاء يقولون إنه إذا نوى عود الاستثناء إلى طلبه وإرادته نفعه في الكفارة أو لا ترتفع إلا بهذا الشرط . وعلى خاطري هنا قول لا أستثبته . " الثالث " أن لا يكون غرضه تعليق واحد منهما ; لأنه جازم بإرادته وجازم بأنه سيكون كما لو كان خبرا محضا مثل قوله : لينزلن قوله : لأصومن غدا إن شاء الله من رمضان ابن مريم وليخرجن الدجال ولتقومن الساعة . وهذه أيمان أمر الله رسوله بنوع منها كقوله : { ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي } فهذا ماض وحاضر وقال : { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم } وقال : { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن } فأمره أن يحلف على وقوع إتيان الساعة وبعث الناس من قبورهم وهما مستقلان من فعل غيره وهذا { كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر : لآتينه ولأطوفن به } فهنا إذا قال : إن شاء الله فقد لا يكون غرضه تعليق الإخبار وإنما غرضه تحقيقه كقوله : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله } فإن هذا كلام صحيح ; إذ الحوادث كلها لا تكون إلا بمشيئة الله مثل ما لو قال : ليكونن إن اتفقت أسباب كونه .
والناس يعلمون أنه إن شاء الله وإن اتفقت أسباب كونه كان فإن لم يكن هو مخبرا لهم بذلك كان متكلما بما لا يفيد . [ ص: 311 ] فهذا إذا نواه هل يرفع الكفارة ؟ فبالنظر إلى قصده وجزمه في الخبر قد حصلت المخالفة وبالنظر إلى لفظه وأنه إنما جزم بمشروط لا بمطلق لم تقع المخالفة ; وإن أخطأ اعتقاده كما لو حلف على من يظنه كما حلف عليه فتبين بخلافه فإنه لما أخبر عن الماضي بموجب اعتقاده لم يحنث ; بخلاف ما إذا تعمد الكذب . وكذلك هذا لم يتأل على الله ; لكن يقال : كان ينبغي له أن يشك فلما تألى على الله وأكد المشيئة قاصدا بها تحقيق جزمه بالإخبار صار وجودها زائدا له في التألي لا معلقا . فقد يقال في معارضة هذا : الجزم يرجع إلى اعتقاده ; لا إلى كلامه وأما كلامه فلم يتأل فيه على الله ; بل أخبر أن هذا يكون إن شاء الله وقال مع ذلك : أنا معتقد أنه يكون جازما به . فالكفارة وجبت لمخالفة خبري مخبره أو لمخالفة اعتقادي معتقده ؟ إنما وجبت لمخالفة الخبر فإني لو قلت إني أعتقد أن هذا يكون وأنا جازم باعتقادي لم يكن علي حنث إذا لم يكن . ومعنى كلامي أني جازم بأن هذا سيكون وأخبركم أنه يكون إن شاء الله فعلقت لكم إخباري لا اعتقادي وإلا لم يكن في قولي إن شاء الله فائدة ; إذ لو كان المعنى أني جازم بأنه سيكون إن شاء الله لم أكن جازما مطلقا . وكذلك لو كان المعنى أن اعتقادي وإخباري إن شاء الله كان هو القسم الأول ; وإنما المعنى أن اعتقادي ثابت به وإخباري لكم معلق به علقته به لأنه لا ينبغي لأحد أن يخبر بالمستقبلات إلا معلقا بمشيئة الله . فهذا فيه نظر . [ ص: 312 ] وبهذا التقسيم يظهر قول من قال إن نوى بالاستثناء معنى قوله { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا } { إلا أن يشاء الله } فإن الرجل مأمور أن لا يقول لأفعلنه غدا إلا أن يقول إن شاء الله .
ويتبين بهذا البحث الذي ذكرناه أن الاستثناء الرافع للكفارة إنما يعلق ما في اليمين من معنى الخبر المحض أو المشوب ; لا يعلق ما فيها من معنى الطلب المحض أو المشوب ; إذ مخالفة الطلب لا توجب كفارة وإنما يوجبها مخالفة الخبر وذلك لأن الرفع إنما يكون إذا كان في المشيئة تعليق والتعليق إنما يكون فيما لم يقع ; بخلاف ما قد وقع . ومن هنا يعلم أن الاستثناء لا يرفع الإنشاءات بأسرها لا الطلاق ولا غيره كما لا يرفع موجب الطلب . وينبغي أن يؤخذ من هذه أن هذه الصيغ المغلب عليها حكم الإنشاءات ; لامتناع الاستثناء فيها وأن الاستثناء فيها بأسرها استثناء تحقيق ; لا تعليق كقوله : كان هذا بمشيئة الله وكان بقدرة الله . ويخرج من هذا " الاستثناء في الأيمان " إن عاد إلى الموافاة فعلى بابه ; لأن إطلاق الاسم يقتضي استحقاق الجنة كما قاله ابن مسعود وخالفه فيه صاحب معاذ بتأويل صحيح وتركه جائز . وإن كان فعله أحسن [ ص: 313 ] من تركه . وهذا معنى كلام أحمد في ومن أصحابنا من أوجبه كما أن المرجئة تحظره ومن الناس من قد يرى تركه أحسن . فالإقسام فيه : إما واجب أو مستحب أو ممنوع . حظرا أو كراهة أو مسنونا أو مستوي الحالتين .
وبهذا الذي ذكرناه في اليمين يظهر معنى الوعد والوعيد من جواز نسخ ذلك أو الخلف فيه ; فإن من رآهما خبرا : قال النسخ يقتضي الكذب والآخر يقول هو خبر متضمن معنى الطلب . فإذا قال : إن فعلت هذا ضربتك . تضمن إني مريد الساعة لضربك إذا فعلته ومخبرك به ; فليس هو خبرا محضا فيكون النسخ عائدا إلى ما فيه من الطلب تغليبا للطلب على الخبر كما أنه في باب المشيئة والكفارة غلب الخبر على الطلب ; لأن الكلام إذا تضمن معنيان فقد يغلب أحدهما بحسب الضمائم ; ولهذا فرق في الخلف بين الوعد والوعيد لأن الواعد لما تضمن كلامه طلب الخبر الموعود به من نفسه في معرض المقابلة صار ذلك بمنزلة التزامه الأعواض من العقود ; فإنه أمر وجب لغيره عليه فلا يجوز إبطاله والمتوعد تضمن كلامه طلب الشر المتوعد به في معرض المقابلة بمنزلة إلزامه لغيره عوضا إذا بذل هو ما يجب عليه وما وجب له على الغير فله التزامه وله ترك التزامه . [ ص: 314 ] فقولك : بعتك هذا بألف . في معنى المواعد بالألف عند حصول المبيع وفي معنى المطالب بالمبيع عند بذل الألف . فمطالبته بالوعيد الذي هو العقوبة ليس بأحسن حالا من مطالبته بسائر الحقوق الواجبة له على سبيل المقابلة ; فإن أخذ الحقوق من الناس فيها شوب الألم فلا يخلص من نوع عقوبة وإن لم تسم بها فإنما الغرض تمثيل هذا بهذا فيما يجب للمتكلم وما يجب عليه فإذا كان الوعد والوعيد وإن تضمنا خبرا فهما متضمنين طلبا صيرهما ذلك بمنزلة الإنشاء الذي وإن كان صيغته صيغة الخبر عن الماضي فهو إنشاء لأمر حاضر . وهذان وإن كان لفظهما لفظ الخبر عن المستقبل فهما إنشاء للإرادة والطلب فإذا كان وعد وجب فسمي خلفه كذبا كما قال لمن قال : { لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا } { والله يشهد إنهم لكاذبون } وإذا كان وعيدا لم يجب إنفاذه لتضمنه معنى بيان الاستحقاق . وعلى هذا فيجوز نسخ الوعيد كما ذكره السلف في قوله : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } وأما الوعد بعد الاستحقاق فلا يجوز نسخه لأنه موجب المشروط .
وأما قبل العمل فيتوجه جواز نسخه كفسخ التعليقات الجائزة غير اللازمة من الجعالة ونحوها ; فإنه إذا قال : من رد عبدي الآبق فله درهم . فله فسخ ذلك قبل العمل . والفسخ كالنسخ . هذا فسخ لإنشاءات هي العقود المتضمنة التزام إرادة له أو عليه وهذا فسخ لطلب أيضا . وكما أن المتصور في الفسخ أنه رفع الحكم الذي هو الطلب أو الإذن [ ص: 315 ] فالفسخ رفع الحكم الذي هو الإرادة أو الإباحة وكذلك الوعد والوعيد رفع الحكم الذي هو إرادة الإعطاء أو الإباحة . فهذا كله إنما كان لأن من الكلام ما تضمن معنى الطلب والخبر وهو الأيمان والنذور والوعد والوعيد والعقود . فهذا " القسم الثالث " المركب هو الذي اضطرب الناس في أحكامه ولهذا قسم بعضهم الكلام إلى خبر وإنشاء ليكون الإنشاء أعم من الطلب ; لأنه ينشئ طلبا وإذنا وما ثم غير الطلب والإذن ; لأنه إما أن يطلب من نفسه أو من غيره وجودا أو عدما . وقد يقال : الإذن يتضمن معنى الطلب ; لأنه طلب من نفسه تمكين المأذون له كما أن الالتزام متضمن معنى الطلب لأنه جعل على نفسه حقا يطلبه المستحق وجوبا وهناك جعله له مباحا . فهذا هذا . والله أعلم : فيعود الأمر إلى طلب أو خبر ; أو مركب منهما . والله أعلم . والحمد لله رب العالمين .