[قال ] : "باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - البخاري وأن المعرفة فعل القلب، لقوله تعالى: "أنا أعلمكم بالله "، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم
مراده بهذا التبويب: أن المعرفة بالقلب التي هي أصل الإيمان فعل للعبد وكسب له، واستدل بقوله تعالى: بما كسبت قلوبكم فجعل للقلوب كسبا، كما جعل للجوارح الظاهرة كسبا .
والمعرفة: هي مركبة من تصور وتصديق، فهي تتضمن علما وعملا، وهو تصديق القلب، فإن التصور قد يشترك فيه المؤمن والكافر . والتصديق يختص به المؤمن، فهو عمل قلبه وكسبه . وأصل هذا: أن المعرفة مكتسبة، تدرك بالأدلة، وهذا قول أكثر أهل السنن من أصحابنا وغيرهم، ورجحه . [ ص: 173 ] وروى بإسناده، عن ابن جرير الطبري ، أنه قال: الفضيل بن عياض أهل السنة يقولون: الإيمان: المعرفة والقول والعمل . وقالت طائفة: إنها اضطرارية، لا كسب فيها . وهو قول بعض أصحابنا، وطوائف من المتكلمين والصوفية وغيرهم . وخرج في هذا الباب: حديث: البخاري هشام ، عن أبيه، عن ، قالت: عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمرهم أمرهم من الأعمال بما يطيقون، قالوا: إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه، ثم يقول: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا" .
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر أصحابه بما يطيقون من الأعمال، وكانوا لشدة حرصهم على الطاعات يريدون الاجتهاد في العمل، فربما اعتذروا عن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفق، واستعماله له في نفسه، أنه غير محتاج إلى العمل بضمان المغفرة له، وهم غير مضمون لهم المغفرة، فهم محتاجون إلى الاجتهاد، ما لا يحتاج هو إلى ذلك، فكان - صلى الله عليه وسلم - يغضب من ذلك، ويخبرهم أنه أتقاهم لله وأعلمهم به . فكونه أتقاهم لله يتضمن شدة اجتهاده في خصال التقوى، وهو العمل . وكونه أعلمهم به يتضمن أن علمه بالله أفضل من علمهم بالله . وإنما أراد علمه بالله، لمعنيين:
أحدهما: زيادة معرفته بتفاصيل أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه وعظمته [ ص: 174 ] وكبريائه، وما يستحقه من الجلال والإكرام والإجلال والإعظام .
والثاني: أن علمه بالله مستند إلى عين اليقين; فإنه رآه، إما بعين بصره . أو بعين بصيرته . كما قال ابن مسعود وغيرهما: رآه بفؤاده مرتين . . وعلمهم به مستند إلى علم يقين، وبين المرتبتين تباين . ولهذا سأل وابن عباس إبراهيم - عليه السلام - ربه أن يرقيه من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين، بالنسبة إلى رؤية إحياء الموتى، وقد سبق التنبيه على ذلك والكلام في تفاصيل المعرفة القائمة بالقلب . فلما زادت معرفة الرسول بربه، زادت خشيته له وتقواه، فإن العلم التام يستلزم الخشية، كما قال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء فمن كان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلم، كان له أخشى وأتقى، وإنما تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله . وقد خرج في آخر: "صحيحه " عن البخاري ، قال: قالت مسروق : عائشة وفي "صحيح صنع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا، ترخص فيه، وتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله، ثم قال: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله; إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية" . " عن مسلم ، عائشة وفي حديث أن رجلا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إني أصبح جنبا، وأنا أريد الصيام . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأنا [ ص: 175 ] أصبح جنبا، وأنا أريد الصيام، فأغتسل وأصوم " . فقال الرجل: يا رسول الله، إنك لست مثلنا، قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي " . ، أنس وقد خرجاه في "الصحيحين " بمعناه . ففي هذه الأحاديث كلها: الإنكار على من نسب إليه التقصير في العمل للاتكال على المغفرة، فإنه كان يجتهد في الشكر أعظم الاجتهاد، فإذا عوتب على ذلك، وذكرت له المغفرة، أخبر أنه يفعل ذلك شكرا . كما في "الصحيحين " عن أن ثلاثة رهط جاءوا إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - . يسألون عن عبادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا، فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أصوم الدهر ولا أفطر . وقال الآخر: أنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدا . فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا; أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي، وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني " . المغيرة ، وقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم حتى تتفطر قدماه، فيقال له: تفعل هذا، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر . فيقول: "أفلا أكون عبدا شكورا" . فنسبة التقصير إليه في العمل لاتكاله على المغفرة خطأ فاحش، لأنه يقتضي أن هديه ليس هو أكمل الهدي وأفضله، وهذا خطأ عظيم، ولهذا كان يواصل في الصيام وينهاهم، ويقول: "إني لست كهيئتكم، إني أظل [ ص: 176 ] عند ربي يطعمني ويسقيني " . محمد" . ويقتضي - أيضا - هذا الخطأ أن الاقتداء بهديه في العمل ليس هو أفضل . بل الأفضل كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: "خير الهدي هدي في ذلك، وهذا خطأ عظيم جدا; فإن الله تعالى قد أمر بمتابعته، وحث عليها، قال تعالى: الزيادة على هديه قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم فلهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يغضب من ذلك غضبا شديدا، لما في هذا الظن من القدح في هديه ومتابعته والاقتداء به . . وفي رواية للإمام أصبح جنبا، وأنا أريد الصيام، فأغتسل وأصوم " : أحمد "والله، إني لأعلمكم بالله، وأتقاكم له قلبا" . وقوله في الرواية التي خرجها أصبح جنبا، وأنا أريد الصيام، فأغتسل وأصوم " . في هذا الباب: البخاري فيه: الإتيان بالضمير المنفصل مع تأتي الإتيان بالضمير المتصل، وهو ممنوع عند أكثر النحاة، إلا للضرورة، كقول الشاعر: "إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا"،
ضمنت إياهم الأرض في دهر الدهارير
وإنما يجوز اختيارا، إذا لم يتأت الإتيان بالمتصل، مثل أن تبتدئ بالضمير قبل عامله، نحو: إياك نعبد فإنه لا يبتدأ بضمير متصل، أو يقع بعد نحو: "إلا إياه " . [ ص: 177 ] فأما قول الشاعر:
أن لا يجاورنا إلاك ديار
فشاذ .
وأما قوله: وإنما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي فهو - عندهم - متأول على أن فيه معنى الاستثناء . كأنه قال: ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا . ولكن; هذا الذي وقع في هذا الحديث يشهد لجوازه من غير ضرورة . ويكون حينئذ قوله: "إنما يدافع عن أحسابهم أنا" شاهدا له، غير محتاج إلى تأويل . والله أعلم .