الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                              وأما بقية المؤمنين سوى الشهداء; فينقسمون إلى: أهل تكليف، وغير أهل تكليف; فهذان قسمان:

                                                                                                                                                                                              أحدهما: غير أهل التكليف: كأطفال المؤمنين . فال جمهور على أنهم في الجنة، وقد حكى الإمام أحمد الإجماع على ذلك . وقال - في رواية جعفر بن محمد -: ليس فيهم اختلاف، يعني أنهم في الجنة ، وقال - في رواية الميموني -: لا أحد يشك أنهم في الجنة .

                                                                                                                                                                                              وذكر الخلال من طريق حنبل، عن أحمد ، قال: نحن نقر بأن الجنة قد خلقت، ونؤمن بها، والجنة والنار مخلوقتان، قال الله عز وجل: النار يعرضون عليها غدوا وعشيا لآل فرعون، وقال: أرواح ذراري [ ص: 234 ] المسلمين، في أجواف طير خضر، تسرح في الجنة، يكفلهم أبوهم إبراهيم . فيدل هذا على أنهما قد خلقتا . وكذلك نص الشافعي على أن أطفال المسلمين في الجنة .

                                                                                                                                                                                              وجاء صريحا عن السلف على أن أرواحهم في الجنة كما روى الليث ، عن أبي قيس، عن هذيل، عن ابن مسعود ، قال: إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، تسرح بهم في الجنة حيث شاءوا، وإن أرواح ولدان المسلمين في أجواف عصافير في الجنة، تسرح بهم في الجنة حيث شاءت فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش . خرجه ابن أبي حاتم . 0 ورواه الثوري والأعمش ، عن أبي قيس، عن هذيل، من قوله، لم يذكر ابن مسعود .

                                                                                                                                                                                              وخرج البيهقي ، من طريق عكرمة ، عن ابن عباس، عن كعب ، نحوه .

                                                                                                                                                                                              وخرج الخلال، من طريق ليث ، عن أبي الزبير ، عن عبيد بن عمير . قال: إن في الجنة لشجرة لها ضروع كضروع البقر، يغذى به ولدان أهل الجنة، حتى إنهم ليستنون استنان البكارة .

                                                                                                                                                                                              وخرج ابن أبي حاتم بإسناده، عن خالد بن معدان ، قال: إن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى ضروع كلها، ترضع صبيان أهل الجنة، وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة، يتقلب فيه حتى تقوم الساعة، فيبعث ابن أربعين سنة . ويدل على صحة ذلك ما في "صحيح مسلم " عن أنس قال: لما توفي [ ص: 235 ] إبراهيم عليه السلام، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين فيكفلان رضاعه في الجنة"

                                                                                                                                                                                              وخرج ابن ماجه نحوه من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - .

                                                                                                                                                                                              وخرج الإمام أحمد نحوه من حديث البراء بن عازب . وروى سعيد بن منصور ، عن إسماعيل بن عياش ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مكحول ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن ذراري المؤمنين أرواحهم في عصافير في شجر في الجنة، يلقاهم أبوهم إبراهيم عليه السلام " . وكذا رواه علي بن عثمان الحقي، عن حماد بن سلمة ، عن أبن خثيم . عن مكحول ، إلا أنه قال: عصافير خضر في الجنة . وهذا مرسل، ولفظه يشبه لفظ الحديث الذي احتج به الإمام أحمد على خلق الجنة، كما تقدم .

                                                                                                                                                                                              وقد روي متصلا من وجه آخر، من رواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، عن عطاء بن قرة، عن عبد الله بن ضمرة ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ذراري المؤمنين يكفلهم إبراهيم عليه السلام في الجنة" خرجه ابن حبان في "صحيحه " والحاكم وقال: صحيح الإسناد . وخرجه الإمام أحمد ، عن موسى بن داود، عن ابن ثوبان ، إلا أنه ذكر أن موسى شك في رفعه . ولكن رواه غير واحد، عن ثوبان ، ولم يشكوا في رفعه . [ ص: 236 ] وروي من وجه آخر، من رواية مؤمل، عن سفيان ، عن ابن الأصبهاني . عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أولاد المسلمين في جبل في الجنة، يكفلهم إبراهيم وسارة - عليهما السلام - فإذا كان يوم القيامة دفعوا إلى آبائهم " . وكذا رواه محمد بن عبد الله بن نمير، عن وكيع ، عن سفيان مرفوعا . ورواه ابن مهدي وأبو نعيم ، عن سفيان ، موقوفا، قال الدارقطني : والموقوف أشبه .

                                                                                                                                                                                              ومما يستدل لهذا - أيضا - ما خرجه البخاري عن سمرة بن جندب . عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى في منامه جبرائيل وميكائيل أتياه فانطلقا به، وذكر حديثا طويلا، وفيه: "فإذا روضة خضراء فيها شجرة عظيمة وإذا شيخ في أصلها حوله صبيان، فصعدا بي الشجرة وأدخلاني دارا لمأرقط أحسن منها، فإذا فيها رجال وشيوخ وشباب وفيها نساء وصبيان "، وذكر الحديث وفيه: "قالا: فأما الشيخ الذي رأ يت في أصل الشجرة فذاك إبراهيم، وأما الصبيان الذي رأيت حوله فأولاد الناس " . وفي رواية: "فكل مولود مات على الفطرة، وأما الدار التي دخلت أولا فدار عامة المؤمنين، وأما الدار الأخرى فدار عامة الشهداء " . ورواه ابن خلدة، عن أبي رجاء العطاردي ، عن سمرة ، وفي حديثه: "قلت: فالذين في الروضة؟ قال: أولئك الأطفال، وكل بهم إبراهيم عليه السلام، يربيهم إلى يوم القيامة" . [ ص: 237 ] وخرج الطبراني ، والحاكم ، من حديث سليم بن عامر ، عن أبي أمامة . عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينا أنا نائم انطلق بي إلى جبل وعر"، فذكر الحديث، وفيه: "ثم انطلق بي حتى أشرفت على غلمان يلعبون بين نهرين، قلت: من هؤلاء؟ قال: ذراري المؤمنين يحضنهم أبوهم إبراهيم - عليه السلام - ثم انطلق بي حتى أشرفت على ثلاثة نفر، قلت: من هؤلاء؟ قال: إبراهيم وموسى وعيسى - عليهم السلام - وهم ينتظرونك " . وذهبت طائفة إلى أنه يشهد لأطفال المؤمنين عموما أنهم في الجنة ولا يشهد لآحادهم، كما يشهد للمؤمنين عموما أنهم في الجنة، ولا يشهد لآحادهم وهو قول إسحاق بن راهويه ، نقله عنه إسحاق بن منصور وحرب في مسائلهما، ولعل هذا يرجع إلى الطفل المعين لا يشهد لأبيه بالإيمان، فلا يشهد له حينئذ أنه من أطفال المؤمنين، فيكون الوقف في آحادهم كالوقف في إيمان آبائهم .

                                                                                                                                                                                              وحكى ابن عبد البر عن طائفة من السلف القول بالوقف في أطفال المؤمنين، وسمى منهم حماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، وابن المبارك . وإسحاق، وهذا بعيد جدا، ولعله أخذ ذلك من عمومات كلام لهم، وإنما أرادوا بها أطفال المشركين . وكذلك اختار القول بالوقف طائفة منهم: الأثرم ، والبيهقي . وذكر أن ابن عباس رجع إليه والإمام أحمد ذكر أن ابن عباس إنما قال ذلك في أطفال المشركين، وإنما أخذه البيهقي من عموم لفظ روي عنه، كما أنه روي في [ ص: 238 ] بعض ألفاظ حديث أبي هريرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الأطفال، فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين "، ولكن الحفاظ الثقات ذكروا أنه سئل عن أطفال المشركين . واستدل القائلون بالوقف، بما أخرجه مسلم ، من حديث فضيل بن عمرو ، عن عائشة بنت طلحة ، عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، قالت: توفي صبي، فقلت: طوبى له، عصفور من عصافير الجنة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أو لا تدرين أن الله خلق الجنة وخلق النار، فخلق لهذه أهلا ولهذه أهلا" . وخرجه مسلم - أيضا - من طريق طلحة بن يحيى، عن عمته عائشة بنت طلحة ، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: دعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله طوبى لهذا، عصفور من عصافير أهل الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق للجنة أهلا، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم " . وقد ضعف الإمام أحمد رضي الله عنه هذا الحديث من أجل طلحة بن يحيى، وقال: قد روى مناكير، وذكر له هذا الحديث، وقال ابن معين فيه: ليس بالقوي . وأما رواية فضيل بن عمرو له عن عائشة، فقال أحمد : ما أراه سمعه إلا من طلحة بن يحيى، يعني أنه أخذه عنه، ودلسه، حيث رواه عن عائشة بنت طلحة . [ ص: 239 ] وذكر العقيلي أنه لا يحفظ إلا من حديث طلحة . ويعارض هذا ما خرجه مسلم ، من حديث أبي السليل، عن أبي حسان ، قال: قلت لأبي هريرة : إنه قد مات لي ابنتان، فما أنت محدثي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا، قال: نعم، صغارهم دعاميص أهل الجنة، يتلقى أحدهم أباه - أو قال أبويه - فيأخذ بثوبه، أو قال بيده - كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا فلا يتباهى أو قال: فلا ينتهي حتى يدخله الله وأباه الجنة" . وفي "الصحيحين " عن أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم " . ولهذا قال الإمام أحمد : "هو يرجى لأبويه، فكيف يشك فيه؟ " يعني أنه يرجى لأبويه بسببه دخول الجنة . ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أولا عن الشهادة لأطفال المسلمين بالجنة قبل أن يطلع على ذلك، لأن الشهادة على ذلك تحتاج إلى علم به، ثم اطلع على ذلك فأخبر به، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                              القسم الثاني: أهل التكليف من المؤمنين سوى الشهداء:

                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية