[ ص: 611 ]
الرسالة الشافية في وجوه الإعجاز ، والقول في الصرفة
بسم الله الرحمن الرحيم
فصل
في الذي يلزم القائلين بالصرفة
37 - اعلم أن الذي يقع في الظن من حديث القول بالصرفة ، أن يكون الذي ابتدأ القول بها ابتدأه على توهم أن التحدي كان إلى أن يعبر عن أنفس معاني القرآن بمثل لفظه ونظمه ، دون أن يكون قد أطلق لهم وخيروا في المعاني كلها . ذاك لأن في القول بها على غير هذا الوجه أمورا شنيعة ، يبعد أن يرتكبها العاقل ويدخل فيها . وذاك أنه يلزم عليه أن تكون العرب قد تراجعت حالها في البلاغة والبيان ، وفي جودة النظم وشرف اللفظ- وأن يكونوا قد نقصوا في قرائحهم وأذهانهم ، وعدموا الكثير مما كانوا يستطيعون- وأن تكون أشعارهم التي قالوها ، والخطب التي قاموا بها ، وكل كلام احتفلوا فيه ، من بعد أن أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وتحدوا إلى معارضة القرآن- قاصرة عما سمع منهم من قبل ذلك القصور الشديد ، وأن يكون قد ضاق عليهم في الجملة مجال قد كان يتسع لهم ، ونضبت عنهم مواد قد كانت تعزر . وخذلتهم قوى قد كانوا يصولون بها ، وأن تكون أشعار شعراء النبي صلى الله عليه وسلم التي قالوها في مدحه عليه السلام وفي الرد على المشركين- ناقصة متقاصرة عن شعرهم في الجاهلية ، وأن يشك في الذي روي في شأن من نحو [ ص: 612 ] حسان
قوله عليه السلام : "قل وروح القدس معك" ، لأنه لا يكون معانا مؤيدا من عند الله ، وهو يعدم مما كان يجده قبل كثيرا ، ويتقاصر أنف حاله عن السالف منها تقاصرا شديدا.
38 - فإن قالوا : إنه نقصان حدث في فصاحتهم من غير أن يشعروا به، قيل لهم : فإن كان الأمر كذلك ، فلم تقم عليهم حجة ، لأنه لا فرق بين أن لا يكونوا قد عدموا شيئا من الفصاحة التي كانوا يعرفونها لأنفسهم قبل التحدي بالقرآن والدعاء إلى معارضته ، وبين أن يكونوا قد عدموا ذاك ، ثم لم يعلموا أنهم قد عدموه . ذاك لأن الآية بزعمهم إنما كانت في المنع من نظم ولفظ قد كان لهم ممكنا قبل أن تحدوا ، ولا يكون منع حتى يرام الممنوع ، ولا يتصور أن يروم الإنسان الشيء ولا يعلمه ، ويقصد في قول له وفعل إلى أن يجيء به على وصف وهو لا يعرف ذلك الوصف ولا يتصوره بحال من الأحوال . وإذا جعلناهم لا يعلمون أن كلامهم الذي يتكلمون به اليوم قاصر عن الذي تكلموا به أمس ، وأن قد امتنع عليهم في النظم شيء كان يواتيهم ، وسلبوا منه معنى قد كان لهم حاصلا استحال [ ص: 613 ]
أن يعلموا أن لنظم القرآن فضلا على كلامهم الذي يسمع منهم ، وعلى النظم الواهن الباقي لهم ، ذاك لأن عذر القائل بالصرفة ، أن كلامهم قبل أن تحدوا قد كان مثل نظم القرآن ، وموازيا له ، وفي مبلغه من الفصاحة.
39 - وإذا كان كذلك ، لم يتصور أن يعلموا أن للقرآن مزية على كلامهم ، وعندهم أن كلامهم باق على ما كان عليه في القديم لم ينقص ولم يدخله خلل . وإذا لم يتصور أن يعلموا أن للقرآن مزية على ما يقولونه ويقدرون عليه في الوقت ، لم يتصور أن يحاولوا تلك المزية ، وإذا لم يحاولوها لم يحسوا بالمنع منها والعجز عن نيلها ، وإذا لم يحسوا بالعجز والمنع لم تقم عليهم حجة به . فالذي يعقل إذن مع هذه الحال ، أن يعتقدوا أنهم قد عارضوا القرآن وتكلموا بما يوازيه ويجري مجرى المثل له ، من حيث أنه إذا كان عندهم أن كلامهم باق على ما كان عليه في الأصل وقبل نزول القرآن ، وكان كلامهم إذ ذاك في حد المثل والمساوي للقرآن ، فواجب مع هذا الاعتقاد أن يعتقدوا أن في جملة ما يقولونه في الوقت ويقدرون عليه ، ما يشبه القرآن ويوازيه.
40 - واعلم أنه يلزمهم أن يقضوا في النبي صلى الله عليه وسلم بما قضوا في العرب ، من [ ص: 614 ]
دخول النقص على فصاحتهم ، وتراجع الحال بهم في البيان ، وأن تكون النبوة قد أوجبت أن يمنع شطرا من بيانه ، وكثيرا مما عرف له قبلها من شرف اللفظ وحسن النظم . وذاك لأنهم ذا لم يقولوا ذلك ، حصل منه أن يكون عليه السلام قد تلا عليهم : « قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا » [الإسراء : 88] ، في حال هو يستطيع فيها أن يجيء بمثل القرآن ويقدر عليه ، ويتكلم ببعض ما يوازيه في شرف اللفظ وعلو النظم . اللهم إلا أن يقتحموا جهالة أخرى ، فيزعموا أنه عليه السلام قد كان من الأصل دونهم في الفصاحة ، وأن الفضل والمزية التي بها كان كلامهم قبل نزول القرآن في مثل لفظه ونظمه ، قد كان لبلغاء العرب دون النبي صلى الله عليه وسلم . وإذا قالوا ذلك ، كانوا قد خرجوا من قبيح القول إلى مثله ، فلم يشك أحد أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن منقوصا في الفصاحة ، بل الذي أتت به الأخبار أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب.
41 - ومما يلزمهم على أصل المقالة أنه كان ينبغي لهم لو أن العرب كانت منعت منزلة من الفصاحة قد كانوا عليها أن يعرفوا ذلك من أنفسهم ، كما قدمت ، ولو عرفوه لكان يكون قد جاء عنهم ذكر ذلك ، ولكانوا قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : "إنا كنا نستطيع قبل هذا الذي جئتنا به ، ولكنك قد سحرتنا ، واحتلت [ ص: 615 ]
في شيء حال بيننا وبينه" ، فقد نسبوه إلى السحر في كثير من الأمور ، كما لا يخفى ، وكان أقل ما يجب في ذلك أن يتذاكروه فيما بينهم ، ويشكوه البعض إلى البعض ، ويقولوا : "ما لنا قد نقصنا في قرائحنا ، وقد حدث كلول في أذهاننا" ففي أن لم يرو ولم يذكر أنه كان منهم قول في هذا المعنى ، لا ما قل ولا ما كثر ، دليل [على] أنه قول فاسد ، ورأي ليس من آراء ذوي التحصيل.
42 - هذا ، وفي سياق آية التحدي ما يدل على فساد هذا القول ، وذلك أنه لا يقال عن الشيء يمنعه الإنسان بعد القدرة عليه ، وبعد أن كان يكثر مثله منه : "إني قد جئتكم بما لا تقدرون على مثله ولو احتشدتم له ، ودعوتم الإنس والجن إلى نصرتكم فيه" ، وإنما يقال : "إني أعطيت أن أحول بينكم وبين كلام كنتم تستطيعونه وأمنعكم إياه ، وأن أقحمكم عن القول البليغ ، وأعدمكم اللفظ الشريف" ، ومما شاكل هذا . ونظيره أن يقال للأشداء وذوي الأيد : "إن الآية أن تعجزوا عن رفع ما كان يسهل عليكم رفعه ، وما كان لا يتكاءدكم ولا يثقل عليكم" .
ثم إنه ليس في العرف ولا في المعقول أن يقال : "لو تعاضدتم واجتمعتم جميعكم لم تقدروا عليه" ، في شيء قد كان الواحد منهم يقدر على مثله ،
[ ص: 616 ]
ويسهل عليه ويستقل به ، ثم يمنعون منه، وإنما يقال ذلك حيث يراد أن يقال : "إنكم لم تستطيعوا مثله قط ، ولا تستطيعونه البتة وعلى وجه من الوجوه ، حتى إنكم لو استضفتم إلى قواكم وقدركم التي لكم قوى وقدرا ، وقد استمددتم من غيركم ، لم تستطيعوه أيضا" من حيث إنه لا معنى للمعاضدة والمظافرة والمعاونة ، إلا أن تضم قدرتك إلى قدرة صاحبك حتى يحصل باجتماع قدرتكما ما لم يكن يحصل.
فقد بان إذن أن لا مساغ لحمل الآية على ما ذهبوا إليه ، وأن لا محتمل فيها لذلك على وجه من الوجوه ، وظهر به وسائر ما تقدم أن القول بالصرفة ، ولا سيما على هذا الوجه ، قول في غاية البعد والتهافت ، وأنه من جنس ما لا يعذر العاقل في اعتقاده . ولم أقل : "ولا سيما على هذا الوجه" ، وأنا أعني أن للقول بها على الوجه الأول مساغا في الصحة ، ولكني أردت أن فساده كأنه أظهر ، والشناعة عليه أكثر ، وإلا فما هما ، إن أردت البطلان ، إلا سواء.
43 - فإن قلت : فكيف الكلام عليهم ، إذا ذهبوا في "الصرفة" إلى الوجه الآخر ، فزعموا أن التحدي كان أن يأتوا في أنفس معاني القرآن بمثل نظمه ولفظه؟ وما الذي دل على فساده؟
[ ص: 617 ]
فإن على فساد ذلك أدلة منها قوله تعالى : « أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات » [ سورة هود : 13] ، وذاك أنا نعلم أن المعنى : فأتوا بعشر سور تفترونها أنتم- وإذا كان المعنى على ذلك ، فبنا أن ننظر في الافتراء إذا وصف به الكلام، إلى المعنى يرجع أم إلى اللفظ والنظم؟ وقد عرفنا أنه لا يرجع إلا إلى المعنى، وإذا لم يرجع إلا إلى المعنى وجب أن يكون المراد : إن كنتم تزعمون أني قد وضعت القرآن وافتريته ، وجئت به من عند نفسي ، ثم زعمت أنه وحي من الله ، فضعوا أنتم أيضا عشر سور وافتروا معانيها كما زعمتم أني افتريت معاني القرآن . فإذا كان المراد كذلك ، كان تقديرهم أن التحدي كان أن يعمدوا إلى أنفس معاني القرآن فيعبروا عنها بلفظ ونظم يشبه نظمه ولفظه ، خروجا عن نص التنزيل وتحريفا له.
وذاك أن حق اللفظ إذا كان المعنى ما قالوه أن يقال : "إن زعمتم أني افتريته ، فأتوا أنتم في معاني هذا المفترى بمثل ما ترون من اللفظ والنظم" . يبين ذلك أنه لو قال رجل شعرا فأحسن في لفظه ونظمه وأبلغ ، وكان له خصم يعانده ، فعلم الخصم أنه لا يجد عليه مغمزا في النظم واللفظ ، فترك ذلك جانبا وتشاغل عنه ، وجعل يقول : "إني رأيتك سرقت معاني شعرك وانتحلتها وأخذتها من هذا وذاك ، فقال له الرجل في جواب هذا الكلام : "إن كنت قد سرقت معاني [ ص: 618 ]
شعري ، فقل أنت شعرا مثله مسروق المعاني" لم يعقل منه إلا أنه يقول : "فقل أنت شعرا في معان أخر تسرقها كما سرقت معاني بزعمك" ولم يحتمل أن يريد : "اعمد إلى معاني فقل فيها شعرا مثل شعري" ، وإنما يعقل ذلك إذا هو قال : "إن كنت قد سرقت معاني شعري ، فقل أنت في هذه المعاني المسروقة مثل الذي قلت ، وانظم فيه الكلام مثل نظمي لكلامي ، وحبره تحبيري" .
44 - هذه جملة لا تخفى على من عرف مخارج الكلام ، وعلم حق المعنى من اللفظ ، وما يحتمل، مما لا يحتمل . ومنها ما تقدم ، من أنه لا يقال في الشيء قد كان يكثر مثله من الإنسان ثم منع منه : "ايت بمثله ، واجهد جهدك ، واستعن عليه ، فإنك لا تستطيع ولو أعانك الجن والإنس" ، وإنما يقال ذلك في البديع المبتدأ ، أو الذي لم يسبق إليه ، ولم يوجد مثله قط.
وهذا المعنى وإن كان يلزمهم في الوجهين ، فإنه لهم في هذا الوجه الذي نحن فيه ألزم ، وذاك أن قولك للرجل يقدر على مثل الشيء اليوم في كثير من الأحوال والأمور ، ويعوقه عنه عائق في حال واحدة وأمر واحد : "لو اجتمع الإنس والجن فأعانوك لم تقدر على مثله" أبعد وأقبح من قولك ذلك . وقد كان يقدر عليه في سالف الأزمان ، ثم منعه جملة ، وجعل يستطيعه البتة.
[ ص: 619 ]
ومنها الأخبار التي جاءت عن العرب في تعظيم شأن القرآن وفي وصفه بما وصفوه به من نحو : "إن عليه لطلاوة ، وإن له لحلاوة ، وإن أسفله لمعذق ، وإن أعلاه لمثمر" ، وذاك أن محالا أن يعظموه ، وأن يبهتوا عند سماعه ، ويستكينوا له ، وهم يرون فيما قالوه وقاله الأولون ما يوازيه ، ويعلمون أنه لم يتعذر عليهم لأنهم لا يستطيعون مثله ، ولكن وجدوا في أنفسهم شبه الآفة والعارض يعرض للإنسان فيمنعه بعض ما كان سهلا عليه- بل الواجب في مثل هذه الحال أن يقولوا : "إن كنا لا يتهيأ لنا أن نقول في معاني ما جئت به ما يشبهه ، إنا لنأتيك في غيره من المعاني ما شئت وكيف شئت ، بما لا يقصر عنه ولا يكون دونه".
45 - وجملة الأمر أن علم النبوة عندئذ والبرهان ، إنما كان [يكون] في الصرف والمنع عن الإتيان بمثل نظم القرآن لا في نفس النظم . وإذا كان كذلك ، فينبغي إذا تعجب المتعجب وأكبر المكبر ، أن يقصد بتعجبه وإكباره إلى المنع الذي فيه الآية والبرهان ، لا إلى الممنوع منه . وهذا واضح لا يشكل .
[ ص: 620 ]
46 - فإن قالوا : إنه ليكون أن يستحسن الشاعر الشعر يقوله غيره ويكبر شأنه ، ويرى فيه فضلا ومزية على ما قاله هو من قبل ، ثم هو لا ييأس من أن يقدر على مثله إذا هو جهد نفسه وتعمل له . فنحن نجعل لفظ القرآن ونظمه على هذا السبيل ، ونقول : “ إنهم سمعوا منه ما بهرهم وعظم في نفوسهم ، وأنهم [كانوا] على حال أنسوا من أنفسهم بأنهم يأتون بمثله إذا هم اجتهدوا ، فحيل بينهم وبين ذلك الاجتهاد ، وأخذوا عن طريقه ، ومنعوا فضل المنة التي طمعوا معها في أن يجروا إلى تلك الغاية ويبلغوا ذاك الذي أرادوا. وإذا كنا نعلم أن الشاعر المفلق ربما اعتاص القول عليه حتى يعيا بقافية ، وحتى تنسد عليه المذاهب ، وأن الخطيب المصقع يرتج عليه حتى لا يجد مقالا ، وحتى لا يفيض بكلمة ، لم يكن الذي قلناه وقدرناه بعيدا أن يكون ، وأن يسعه الجواز ويحتمله الإمكان.
قيل لهم : أنتم الآن كأنكم أردتم أن تحسنوا أمركم ، وأن تغطوا على بعض العوار ، وأن تتملصوا من الذي تلزمون ، وليس لكم في ذلك كبير جدوى إذا حقق الأمر ، وإنما هو خداع وضرب من التزويق.
وأول ما يدل على بطلان ما قلتم ، أن الذي عرفنا من حال الناس فيما سبيله ما ذكرتم ، التضجر والشكوى ، وأن يقولوا : "ما بالنا؟ ومن أين دهينا؟ وكيف [ ص: 621 ]
الصورة؟ إنا وإن كنا نسمع قولا له فضل ومزية على ما قلناه ، فإنه ليس بالذي ينبغي أن نعجز عنه هكذا حتى لا نستطيع في معارضته ما نرضى ، فلا ندري أسحرنا أماذا كان؟ " ففي أن لم يرو عنهم شيء من هذا الجنس على وجه من الوجوه ، دليل أن لا أصل لما توهموه ، وأنه تلفيق باطل.
ثم إنه ليس في العادة أن يذعن الرجل لخصمه ، ويستكين له ، ويلقي بيده ، ويسكت على تقريعه له بالعجز وترديده القول في ذلك ، وقدر ما ظهر من المزية قدر قد يطمع الإنسان في مثله ، ويرى أنه يناله إذا هو اجتهد وتعمد بل العادة في مثل هذا أن يدفع العجز عن نفسه ، وأن يجحد الذي عرف لصاحبه من المزية ويتشدد ، كما فعل ، فيدعي في مساواته ، وأنه إن كان جرى إلى غاية رأى لنفسه بها تقدما إنه ليجري إلى مثلها ، وأن يقول : "لا تغل ولا تفرط ولا تشتط في دعواك ، فلئن كنت قد نلت بعض السبق ، إنك لم تبعد المدى بعد من لا يداني ولا يشق غباره ، فرويدا ، واكفف من غلوائك" . حسان
47 - واعلم أنهم بتمحلهم هذا قد وقعوا في أمر يوهي قاعدتهم ، ويقدح في أصل مقالتهم ، فقد نظروا لأنفسهم من وجه وتركوا النظر لها من آخر . وذاك أن من حق المنع إذا جعل آية وبرهانا ، ولا سيما للنبوة ، أن يكون في أظهر الأمور ،
[ ص: 622 ]
وأكثرها وجودا ، وأسهلها على الناس ، وأخلقها بأن تبين لكل راء وسامع أنه قد كان منع ، لا أن يكون المنع من خفي لا يعرف إلا بالنظر ، وإلا بعد الفكر ، ومن شيء لم يوجد قط ولم يعهد ، وإنما يظن ظنا أنه يجوز أن يكون ، وأن له مدخلا في الإمكان إذا اجتهد المجتهد ، وهل سمع قط أن نبيا أتى قومه فقال : "حجتي عليكم ، والآية في أني نبي إليكم ، أن تمنعوا من أمر لم يكن منكم قط ، وليس يظهر في بادئ الرأي وظاهر الأمر أنكم تستطيعونه ، ولكنه موهوم جوازه منكم ، إذا أنتم كددتم أنفسكم ، وجمعتم ما لكم ، واستفرغتم مجهودكم ، وعاودتم الاجتهاد فيه مرة بعد أخرى"؟ أم ذلك ما لا يقوله عاقل ، ولا يقدم عليه إلا مجازف لا يدري ما يقول؟
وإذا كان كذلك ، وكان الذي قالوه من أن المنع كان من نظم لم يوجد منهم قط ، إلا أنهم أحسوا في أنفسهم أنهم يستطيعونه إذا هم اجتهدوا واستفرغوا الوسع ، بهذه المنزلة ، وداخلا في هذه القضية فقد بان أنهم بذلك قد أوهوا قاعدتهم ، وقدحوا في أصل المقالة ، من حيث جعلوا الآية والبرهان وعلم الرسالة والأمر المعجز للخلق ، في المنع من شيء لم يوجد قط ، ولم يعلم أنه كان في حال من الأحوال ، وليس بأكثر من أن ظن ظنا أنه مما يحتمله الجواز ويدخل في الإمكان ، إذا أدمن الطلب ، وكثر فيه التعب ، واستنزفت قوى الاجتهاد ، وأرسلت له الأفكار في كل طريق ، وحشدت إليه الخواطر في كل جهة . وكفى بهذا ضعف رأي وقلة تحصيل.