قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمأل
[ ص: 160 ] الذين يتعصبون له ويدعون محاسن الشعر ، يقولون : هذا من البديع ؛ لأنه وقف واستوقف ، وبكى واستبكى ، وذكر العهد والمنزل والحبيب ، وتوجع واستوجع ، كله في بيت ؛ ونحو ذلك .
وإنما بينا هذا لئلا يقع لك ذهابنا على مواضع المحاسن - إن كانت - ، ولا غفلتنا عن مواضع الصناعة ، إن وجدت .
تأمل - أرشدك الله - ، وانظر - هداك الله : أنت تعلم أنه ليس في البيتين شيء قد سبق في ميدانه شاعرا ، ولا تقدم به صانعا . وفي لفظه ومعناه خلل :
فأول ذلك : أنه استوقف من يبكي لذكر الحبيب ، وذكراه لا تقتضي بكاء الخلي ، وإنما يصح طلب الإسعاد في مثل هذا ، على أن يبكي لبكائه ويرق لصديقه في شدة برحائه ؛ فأما أن يبكي على حبيب صديقه ، وعشيق رفيقه ، فأمر محال .
فإن كان المطلوب وقوفه وبكاؤه أيضا عاشقا ، صح الكلام من وجه ، وفسد المعنى من وجه آخر ! لأنه من السخف أن لا يغار على حبيبه ، وأن يدعو غيره إلى التغازل عليه ، والتواجد معه فيه !
ثم في البيتين ما لا يفيد ، من ذكر هذه المواضع ، وتسمية هذه الأماكن : من " الدخول " و " حومل " و " توضح " و " المقراة " و " سقط اللوى " ، وقد كان يكفيه أن يذكر في التعريف بعض هذا . وهذا التطويل إذا لم يفد كان ضربا من العي !
ثم إن قوله : " لم يعف رسمها " ، ذكر من محاسنه : أنه باق فنحن نحزن على مشاهدته ، فلو عفا لاسترحنا . الأصمعي
وهذا بأن يكون من مساويه أولى ؛ لأنه إن كان صادق الود ، فلا يزيده [ ص: 161 ] عفاء الرسوم إلا جدة عهد ، وشدة وجد . وإنما فزع إلى إفادته هذه الفائدة ، خشية أن يعاب عليه ، فيقال : أي فائدة لأن يعرفنا أنه لم يعف رسم منازل حبيبه ؟ وأي معنى لهذا الحشو ؟ فذكر ما يمكن أن يذكر ؛ ولكن لم يخلصه - بانتصاره له - من الخلل . الأصمعي
ثم في هذه الكلمة خلل آخر ، لأنه عقب البيت بأن قال :
فهل عند رسم دارس من معول !
فذكر : أنه رجع فأكذب نفسه ، كما قال أبو عبيدة زهير :
قف بالديار التي لم يعفها القدم نعم ، وغيرها الأرواح والديم
وقال غيره : أراد بالبيت الأول أنه لم ينطمس أثره كله ، وبالثاني أنه ذهب بعضه ، حتى لا يتناقض الكلامان .
وليس في هذا انتصار ؛ لأن معنى " عفا " و " درس " واحد ، فإذا قال : " لم يعف رسمها " ثم قال : " قد عفا " ، فهو تناقض لا محالة !
واعتذار أقرب لو صح ، ولكن لم يرد هذا القول مورد الاستدراك كما قاله " أبي عبيدة " زهير ، فهو إلى الخلل أقرب .
وقوله : " لما نسجتها " ، كان ينبغي أن يقول : " لما نسجها " ، ولكنه تعسف فجعل " ما " في تأويل تأنيث ، لأنها في معنى الريح ، والأولى التذكير دون التأنيث ، وضرورة الشعر قد قادته إلى هذا التعسف .
وقوله : " لم يعف رسمها " كان الأولى أن يقول : " لم يعف رسمه " ؛ لأنه ذكر المنزل ؛ فإن كان رد ذلك إلى هذه البقاع والأماكن [ ص: 162 ] التي المنزل واقع بينها ، فذلك خلل ؛ لأنه إنما يريد صفة المنزل الذي نزله حبيبه ، بعفائه ، أو بأنه لم يعف دون ما جاوره .
وإن أراد بالمنزل الدار حتى أنث ، فذلك أيضا خلل .
ولو سلم من هذا كله ومما نكره ذكره كراهية التطويل - لم نشك في أن شعر أهل زماننا لا يقصر عن البيتين ؛ بل يزيد عليهما ويفضلهما .
* * *
ثم قال :
وقوفا بها صحبي علي مطيهم يقولون : لا تهلك أسى وتحمل
وإن شفائي عبرة مهراقة فهل عند رسم دارس من معول
وليس في البيتين أيضا معنى بديع ، ولا لفظ حسن كالأولين .
والبيت الأول منهما متعلق بقوله : " قفا نبك " فكأنه قال : قفا وقوف صحبي بها علي مطيهم ، أو : قفا حال وقوف صحبي . وقوله " بها " : متأخر في المعنى وإن تقدم في اللفظ . ففي ذلك تكلف وخروج عن اعتدال الكلام .
والبيت الثاني مختل من جهة أنه قد جعل الدمع في اعتقاده شافيا كافيا ، فما حاجته بعد ذلك إلى طلب حيلة أخرى ، وتحمل ومعول عند الرسوم ؟
ولو أراد أن يحسن الكلام لوجب أن يدل على أن الدمع لا يشفيه لشدة ما به من الحزن ، ثم يسائل : هل عند الربع من حيلة أخرى ؟
* * *
وقوله :
كدأبك من أم الحويرث قبلها وجارتها أم الرباب بمأسل
[ ص: 163 ] إذا قامتا تضوع المسك منهما نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وأما البيت الثاني فوجه التكلف فيه قوله :
إذا قامتا تضوع المسك منهما
ولو أراد أن يجود أفاد أن بهما طيبا على كل حال ، فأما في حال القيام فقط ، فذلك تقصير ! ! !
ثم فيه خلل آخر : لأنه بعد أن شبه عرفها بالمسك ، شبه ذلك بنسيم القرنفل ، وذكر ذلك بعد ذكر المسك نقص .
وقوله : " نسيم الصبا " ، في تقدير المنقطع عن المصراع الأول ، لم يصله به وصل مثله .
* * *
وقوله :
ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بل دمعي محملي
ألا رب يوم لك منهن صالح ولا سيما يوم بدارة جلجل
قوله : " ففاضت دموع العين " ، ثم استعانته بقوله : " مني " استعانة ضعيفة عند المتأخرين في الصنعة ، وهو حشو غير مليح ولا بديع .
وقوله : " على النحر " ، حشو آخر ، لأن قوله : " بل دمعي محملي " يغني عنه ، ويدل عليه ، وليس بحشو حسن ، ثم قوله : " حتى بل محملي " إعادة ذكره الدمع حشو آخر ، وكان يكفيه أن يقول : " حتى بلت محملي ، فاحتاج لإقامة الوزن إلى هذا كله .
ثم تقديره أنه قد أفرط في إفاضة الدمع حتى بل محمله ، تفريط [ ص: 164 ] منه وتقصير ، ولو كان أبدع لكان يقول : حتى بل دمعي مغانيهم وعراصهم ، ويشبه أن يكون غرضه إقامة الوزن والقافية ؛ لأن الدمع يبعد أن يبل المحمل ، وإنما يقطر من الواقف والقاعد على الأرض أو على الذيل ! ! وإن بله فلقلته وأنه لا يقطر .
وأنت تجد في شعر الخبزرزي ما هو أحسن من هذا البيت ، وأمتن ، وأعجب منه .
والبيت الثاني خال من المحاسن والبديع ، خاو من المعنى ، وليس له لفظ يروق ، ولا معنى يروع ، من طباع السوقة ! فلا يرعك تهويله باسم موضع غريب .
* * *
وقال :
ويوم عقرت للعذارى مطيتي فيا عجبا من رحلها المتحمل
فظل العذارى يرتمين بلحمها وشحم كهداب الدمقس المفتل
تقديره : اذكر يوم عقرت مطيتي ، أو يرده على قوله : " يوم بدارة جلجل " ، وليس في المصراع الأول من هذا البيت إلا سفاهته ! ! قال بعض الأدباء : قوله " يا عجبا " يعجبهم من سفهه في شبابه : من نحره لهن . وإنما أراد أن لا يكون الكلام من هذا المصراع منقطعا عن الأول ، وأراد أن يكون الكلام ملائما له .
وهذا الذي ذكره بعيد . وهو منقطع عن الأول ، وظاهره أنه يتعجب من [ ص: 165 ] تحمل العذارى رحله ! وليس في هذا تعجب كبير ، ولا في نحر الناقة لهن تعجب !
وإن كان يعني به أنهن حملن رحله ، وأن بعضهن حمله ، فعبر عن نفسه برحله ، فهذا قليلا يشبه أن يكون عجبا ، لكن الكلام لا يدل عليه ، ويتجافى عنه .
ولو سلم البيت من العيب لم يكن فيه شيء غريب ، ولا معنى بديع ، أكثر من سفاهته ، مع قلة معناه ، وتقارب أمره ، ومشاكلته طبع المتأخرين من أهل زماننا !
وإلى هذا الموضع لم يمر له بيت رائع ، وكلام رائق .
وأما البيت الثاني فيعدونه حسنا ، ويعدون التشبيه مليحا واقعا . وفيه شيء : وذلك أنه عرف اللحم ونكر الشحم ، فلا يعلم أنه وصف شحمها ، وذكر تشبيه أحدهما بشيء واقع للعامة ، ويجري على ألسنتهم ! وعجز عن تشبيه القسمة الأولى فمرت مرسلة ! وهذا نقص في الصنعة ، وعجز عن إعطاء الكلام حقه .
وفيه شيء آخر من جهة المعنى : وهو : أنه وصف طعامه الذي أطعم من أضاف بالجودة ، وهذا قد يعاب . وقد يقال : إن العرب تفتخر بذلك ولا يرونه عيبا ، وإنما الفرس هم الذين يرون هذا عيبا شنيعا .
وأما تشبيه الشحم بالدمقس ، فشيء يقع للعامة ويجري على ألسنتهم ، فليس بشيء قد سبق إليه ، وإنما زاد " المفتل " للقافية ، وهذا مفيد ، ومع ذلك فلست أعلم العامة تذكر هذه الزيادة ، ولم يعد أهل الصنعة ذلك من البديع ، ورأوه قريبا .
وفيه شيء آخر من جهة المعنى : وهو : أن تبجحه بما أطعم للأحباب مذموم ، وإن سوغ التبجح بما أطعم للأضياف ، إلا أن [ ص: 166 ] يورد الكلام مورد المجون ، وعلى طريق في المزاح والمداعبة ! أبي نواس
* *