ومما يعدونه من محاسنها :
وليل كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي
[ ص: 181 ] فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبح ، وما الإصباح فيك بأمثل
وكان بعضهم يعارض هذا بقول
nindex.php?page=showalam&ids=8572النابغة :
كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب
وصدر أراح الليل عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانب
تقاعس حتى قلت : ليس بمنقض وليس الذي يتلو النجوم بآيب
وقد جرى ذلك بين يدي بعض الخلفاء ، فقدمت أبيات
امرئ القيس ، واستحسنت استعارتها ، وقد جعل لليل صدرا يثقل تنحيه ، ويبطئ تقضيه ، وجعل له أردافا كثيرة ، وجعل له صلبا يمتد ويتطاول ، ورأوا هذا بخلاف ما يستعيره
nindex.php?page=showalam&ids=11952أبو تمام من الاستعارات الوحشية البعيدة المستنكرة ، ورأوا أن الألفاظ جميلة .
واعلم أن هذا صالح جميل ، وليس من الباب الذي يقال : إنه متناه عجيب ، وفيه إلمام بالتكلف ، ودخول في التعمل .
* * *
وقد خرجوا له في البديع من القصيدة قوله :
وقد أغتدي والطير في وكناتها بمنجرد قيد الأوابد هيكل
[ ص: 182 ] مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل
وقوله أيضا :
له أبطلا ظبي وساقا نعامة وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
فأما قوله " قيد الأوابد " ، فهو مليح ، ومثله في كلام الشعراء وأهل الفصاحة كثير ، والتعمل بمثله ممكن .
وأهل زماننا الآن يصنفون نحو هذا تصنيفا ، ويؤلفون المحاسن تأليفا ، يوشحون به كلامهم . والذين كانوا من قبل - لغزارتهم - وتمكنهم - لم يكونوا يتصنعون لذلك ، وإنما كان يتفق لهم اتفاقا ، ويطرد في كلامهم اطرادا .
وأما قوله في وصفه : " مكر مفر " ، فقد جمع فيه طباقا وتشبيها . وفي سرعة جري الفرس للشعراء ما هو أحسن من هذا وألطف .
وكذلك في جمعه بين أربعة وجوه من التشبيه في بيت واحد - صنعة . ولكن قد عورض فيه وزوحم عليه والتوصل إليه يسير ، وتطلبه سهل قريب .
وقد بينا لك أن هذه القصيدة ونظائرها تتفاوت في أبياتها تفاوتا بينا في الجودة والرداءة ، والسلاسة والانعقاد ، والسلامة والانحلال ، والتمكن والاستصعاب ، والتسهل والاسترسال ، والتوحش والاستكراه . وله شركاء في نظائرها ، ومنازعون في محاسنها ، ومعارضون في بدائعها . ولا سواء كلام ينحت من الصخر تارة ، ويذوب تارة ، ويتلون تلون الحرباء ، ويختلف اختلاف الأهواء ، ويكثر في تصرفه اضطرابه ، وتتفاذف به أسبابه . وبين قول يجرى في سبكه على نظام ، وفي رصفه على منهاج ، وفي وضعه على حد ، وفي صفائه على باب ، وفي
[ ص: 183 ] بهجته ورونقه على طريق ، مختلفه مؤتلف ، ومؤتلفه متحد ، ومتباعده متقارب ، وشارده مطيع ، ومطيعه شارد . وهو على متصرفاته واحد ، لا يستصعب في حال ، ولا يتعقد في شأن .
* *
وَمِمَّا يَعُدُّونَهُ مِنْ مَحَاسِنِهَا :
وَلَيْلٍ كَمَوْجِ الْبَحْرِ أَرْخَى سُدُولَهُ عَلَيَّ بِأَنْوَاعِ الْهُمُومِ لِيَبْتَلِي
[ ص: 181 ] فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ وَأَرْدَفَ أَعْجَازًا وَنَاءَ بِكَلْكَلِ
أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِ بِصُبْحٍ ، وَمَا الْإِصْبَاحُ فِيكَ بِأَمْثَلِ
وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُعَارِضُ هَذَا بِقَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=8572النَّابِغَةِ :
كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةُ نَاصِبِ وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيءِ الْكَوَاكِبِ
وَصَدْرٍ أَرَاحَ اللَّيْلُ عَازِبَ هَمِّهِ تَضَاعَفَ فِيهِ الْحُزْنُ مِنْ كُلِّ جَانِبِ
تَقَاعَسَ حَتَّى قُلْتُ : لَيْسَ بِمُنْقَضٍ وَلَيْسَ الَّذِي يَتْلُو النُّجُومَ بِآيِبِ
وَقَدْ جَرَى ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الْخُلَفَاءِ ، فَقُدِّمَتْ أَبْيَاتُ
امْرِئِ الْقَيْسِ ، وَاسْتُحْسِنَتِ اسْتِعَارَتُهَا ، وَقَدْ جَعَلَ لِلَّيْلِ صَدْرًا يَثْقُلُ تَنَحِّيهِ ، وَيُبْطِئُ تَقَضِّيهِ ، وَجَعَلَ لَهُ أَرْدَافًا كَثِيرَةً ، وَجَعَلَ لَهُ صُلْبًا يَمْتَدُّ وَيَتَطَاوَلُ ، وَرَأَوْا هَذَا بِخِلَافِ مَا يَسْتَعِيرُهُ
nindex.php?page=showalam&ids=11952أَبُو تَمَّامٍ مِنَ الِاسْتِعَارَاتِ الْوَحْشِيَّةِ الْبَعِيدَةِ الْمُسْتَنْكَرَةِ ، وَرَأَوْا أَنَّ الْأَلْفَاظَ جَمِيلَةٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا صَالِحٌ جَمِيلٌ ، وَلَيْسَ مِنَ الْبَابِ الَّذِي يُقَالُ : إِنَّهُ مُتَنَاهٍ عَجِيبٌ ، وَفِيهِ إِلْمَامٌ بِالتَّكَلُّفِ ، وَدُخُولٌ فِي التَّعَمُّلِ .
* * *
وَقَدْ خَرَّجُوا لَهُ فِي الْبَدِيعِ مِنَ الْقَصِيدَةِ قَوْلَهُ :
وَقَدْ أَغْتَدِيَ وَالطَّيْرُ فِي وُكُنَاتِهَا بِمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الْأَوَابِدِ هَيْكَلِ
[ ص: 182 ] مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعًا كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
وَقَوْلَهُ أَيْضًا :
لَهُ أَبْطَلَا ظَبْيٍ وَسَاقَا نَعَامَةٍ وَإِرْخَاءُ سَرْحَانٍ وَتَقْرِيبُ تَتْفُلِ
فَأَمَّا قَوْلُهُ " قَيْدُ الْأَوَابِدِ " ، فَهُوَ مَلِيحٌ ، وَمِثْلُهُ فِي كَلَامِ الشُّعَرَاءِ وَأَهْلِ الْفَصَاحَةِ كَثِيرٌ ، وَالتَّعَمُّلُ بِمِثْلِهِ مُمْكِنٌ .
وَأَهْلُ زَمَانِنَا الْآنَ يُصَنِّفُونَ نَحْوَ هَذَا تَصْنِيفًا ، وَيُؤَلِّفُونَ الْمَحَاسِنَ تَأْلِيفًا ، يُوَشِّحُونَ بِهِ كَلَامَهُمْ . وَالَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ - لِغَزَارَتِهِمْ - وَتَمَكُّنِهِمْ - لَمْ يَكُونُوا يَتَصَنَّعُونَ لِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَتَّفِقُ لَهُمُ اتِّفَاقًا ، وَيَطَّرِدُ فِي كَلَامِهِمُ اطِّرَادًا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي وَصْفِهِ : " مِكَرٍّ مِفَرٍّ " ، فَقَدْ جَمَعَ فِيهِ طِبَاقًا وَتَشْبِيهًا . وَفِي سُرْعَةِ جَرْيِ الْفَرَسِ لِلشُّعَرَاءِ مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا وَأَلْطَفُ .
وَكَذَلِكَ فِي جَمْعِهِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ مِنَ التَّشْبِيهِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ - صَنْعَةٌ . وَلَكِنْ قَدْ عُورِضَ فِيهِ وَزُوحِمَ عَلَيْهِ وَالتَّوَصُّلُ إِلَيْهِ يَسِيرٌ ، وَتَطَلُّبُهُ سَهْلٌ قَرِيبٌ .
وَقَدْ بَيَّنَّا لَكَ أَنَّ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ وَنَظَائِرَهَا تَتَفَاوَتُ فِي أَبْيَاتِهَا تَفَاوُتًا بَيِّنًا فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ ، وَالسَّلَاسَةِ وَالِانْعِقَادِ ، وَالسَّلَامَةِ وَالِانْحِلَالِ ، وَالتَّمَكُّنِ وَالِاسْتِصْعَابِ ، وَالتَّسَهُّلِ وَالِاسْتِرْسَالِ ، وَالتَّوَحُّشِ وَالِاسْتِكْرَاهِ . وَلَهُ شُرَكَاءُ فِي نَظَائِرِهَا ، وَمُنَازِعُونَ فِي مَحَاسِنِهَا ، وَمُعَارِضُونَ فِي بَدَائِعِهَا . وَلَا سَوَاءٌ كَلَامٌ يُنْحَتُ مِنَ الصَّخْرِ تَارَةً ، وَيَذُوبُ تَارَةً ، وَيَتَلَوَّنُ تَلَوُّنَ الْحِرْبَاءِ ، وَيَخْتَلِفُ اخْتِلَافَ الْأَهْوَاءِ ، وَيَكْثُرُ فِي تَصَرُّفِهِ اضْطِرَابُهُ ، وَتَتَفَاذَفُ بِهِ أَسْبَابُهُ . وَبَيْنَ قَوْلٍ يُجْرَى فِي سَبْكِهِ عَلَى نِظَامٍ ، وَفِي رَصْفِهِ عَلَى مِنْهَاجٍ ، وَفِي وَضْعِهِ عَلَى حَدٍّ ، وَفِي صَفَائِهِ عَلَى بَابٍ ، وَفِي
[ ص: 183 ] بَهْجَتِهِ وَرَوْنَقِهِ عَلَى طَرِيقٍ ، مُخْتَلِفُهُ مُؤْتَلِفٌ ، وَمُؤْتَلِفُهُ مُتَّحِدٌ ، وَمُتَبَاعِدُهُ مُتَقَارِبٌ ، وَشَارِدُهُ مُطِيعٌ ، وَمُطِيعُهُ شَارِدٌ . وَهُوَ عَلَى مُتَصَرَّفَاتِهِ وَاحِدٌ ، لَا يُسْتَصْعَبُ فِي حَالٍ ، وَلَا يَتَعَقَّدُ فِي شَأْنٍ .
* *