وإن أردت أن تتبين ما قلناه فضل تبين ، وتتحقق بما ادعيناه زيادة تحقق - فإن كنت من أهل الصنعة فاعمد إلى قصة من هذه القصص ، وحديث من هذه الأحاديث ، فعبر عنه بعبارة من جهتك ، وأخبر عنه بألفاظ من عندك ، حتى ترى فيما جئت به النقص الظاهر ، وتتبين في نظم القرآن الدليل الباهر . 
ولذلك أعاد قصة موسى  في سور ، وعلى طرق شتى ، وفواصل مختلفة ، مع اتفاق المعنى . فلعلك ترجع إلى عقلك ، وتستر ما عندك ، إن غلطت في أمرك ، أو ذهبت في مذاهب وهمك ، أو سلطت على نفسك وجه ظنك . 
 [ ص: 191 ] متى تهيأ لبليغ أن يتصرف في قدر آية في أشياء مختلفة ، فيجعلها مؤتلفة ، من غير أن يبين على كلامه إعياء الخروج والتنقل ، أو يظهر على خطابه آثار التكلف والتعمل ؟ 
وأحسب أنه لا يسلم من هذا - ومحال أن يسلم منه - متى يظفر بمثل تلك الكلمات الأفراد ، والألفاظ الأعلام ، حتى يجمع بينها ، فيجلو فيها فقرة من كلامه ، وقطعة من قوله . ولو اتفق له في أحرف معدودة ، وأسطر قليلة ، فمتى يتفق له في قدر ما نقول : إنه من القرآن معجز ؟ 
هيهات هيهات ! إن الصبح يطمس النجوم وإن كانت زاهرة ، والبحر يغمر الأنهار وإن كانت زاخرة . 
متى تهيأ للآدمي أن يقول في وصف كتاب سليمان   - عليه السلام - ، بعد ذكر العنوان والتسمية ، هذه الكلمة الشريفة العالية : ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين   . والخلوص من ذلك إلى ما صارت إليه من التدبير ، واشتغلت به من المشورة ، ومن تعظيمها أمر المستشار ، ومن تعظيمهم أمرها وطاعتها ، بتلك الألفاظ البديعة ، والكلمات العجيبة البليغة . 
ثم كلامها بعد ذلك ، ألا تعلم تمكن قولها : يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون   . 
وذكر قولهم : قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين  ، لا تجد في صفتهم أنفسهم أبرع مما وصفهم به . 
وقوله : والأمر إليك  ، تعلم براعته بنفسه ، وعجيب معناه ، وموضع  [ ص: 192 ] اتفاقه في هذا الكلام ، وتمكن الفاصلة ، وملاءمته لما قبله ، وذلك قوله : فانظري ماذا تأمرين   . 
ثم إلى هذا الاختصار ، وإلى البيان مع الإيجاز . فإن الكلام قد يفسده الاختصار ، ويعميه التخفيف منه والإيجاز ، وهذا مما يزيده الاختصار بسطا لتمكنه ووقوعه ، ويتضمن الإيجاز منه تصرفا يتجاوز محله وموضعه . 
وكم جئت إلى كلام مبسوط يضيق عن الأفهام ، ووقعت على حديث طويل يقصر عما يراد به من التمام ، ثم لو وقع على الأفهام والتمام ، أخل بما يجب فيه من شروط الإحكام ، أو بمعاني القصة وما تقتضي من الإعظام . 
ثم لو ظفرت بذلك كله ، رأيته ناقصا في وجه الحكمة ، أو مدخولا في باب السياسة ، أو مضعوفا في طريق السيادة ، أو مشترك العبارات إن كان مستجود المعنى ، أو مستجود العبارة مشترك المعنى ، أو جيد البلاغة مستجلب المعنى ، أو مستجلب البلاغة جيد المعنى ، أو مستنكر اللفظ وحشي العبارة ، أو مستبهم الجانب مستكره الوضع . 
وأنت لا تجد في جميع ما تلونا عليك إلا ما إذا بسط أفاد ، وإذا اختصر كمل في بابه وجاد ؛ وإذا سرح الحكيم في جوانبه طرف خاطره ، وبعث العليم في أطرافه عيون مباحثه ، لم يقع إلا على محاسن تتوالى ، وبدائع تترى . 
ثم فكر بعد ذلك في آية آية ، أو كلمة كلمة ، في قوله : إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون   . 
هذه الكلمات الثلاث ، كل واحدة منها كالنجم في علوه ونوره ، وكالياقوت  [ ص: 193 ] يتلألأ بين شذوره . ثم تأمل تمكن الفاصلة - وهي الكلمة الثالثة - وحسن موقعها ، وعجيب حكمتها ، وبارع معناها . 
وإن شرحت لك ما في كل آية طال عليك الأمر ، ولكني قد بينت بما فسرت ، وقررت بما فصلت - الوجه الذي سلكت ، والنحو الذي قصدت ، والغرض الذي إليه رميت ، والسمت الذي إليه دعوت . 
ثم فكر بعد ذلك في شيء أدلك عليه : 
وهو تعادل هذا النظم في الإعجاز ، في مواقع الآيات القصيرة ، والطويلة ، والمتوسطة . 
فأجل الرأي في سورة سورة ، وآية آية ، وفاصلة فاصلة ، وتدبر الخواتم ، والفواتح ، والبوادي والمقاطع ، ومواضع الفصل والوصل ، ومواضع التنقل والتحول ، ثم اقض ما أنت قاض . 
وإن طال عليك تأمل الجميع ، فاقتصر على سورة واحدة ، أو على بعض سورة . 
* * 
				
						
						
