الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        [ ص: 205 ] ( قوله : وقضي له إن نكل مرة بلا أحلف أو سكت ) ; لأن النكول دل على كونه باذلا أو مقرا إذ لولا ذلك لأقدم على اليمين إقامة للواجب دفعا للضرر عن نفسه فترجح هذا الجانب ، ولا وجه لرد اليمين لما قدمناه واللام في له بمعنى على أي قضى القاضي على المدعى عليه والسكوت لغير آفة دلالة النكول وذكر الشارح من باب التحالف أن النكول لا يوجب شيئا إلا إذا اتصل القضاء به وبدونه لا يوجب شيئا أما على اعتبار البدل فظاهر ، وأما على اعتبار أنه إقرار فلأنه إقرار فيه شبهة البدل فلا يكون موجبا بانفراده . ا هـ . وذكر بعده أن المكاتب إذا نكل لا يلزمه شيء لتمكنه من الفسخ بالتعجيز . ا هـ .

                                                                                        أي إذا نكل عن دعوى السيد الكتابة وذكر هنا ، ولا بد أن يكون النكول في مجلس القاضي ، وهل يشترط القضاء على فور النكول فيه خلاف . ا هـ .

                                                                                        ولم يبين الفور بماذا يكون ، ولو قضى عليه بالنكول ثم أراد أن يحلف لا يلتفت إليه ، ولا يبطل القضاء كذا في الخانية ، وفيها ، ولو أن المدعى عليه بعدما عرض عليه اليمين مرتين استمهله ثلاثة أيام ثم مضت ، وقال لا أحلف فإن القاضي لا يقضي عليه حتى ينكل ثلاثا ويستقبل عليه اليمين ثلاثا ، ولا يعتبر نكوله قبل الاستمهال . ا هـ .

                                                                                        ثم اعلم أنه قد ظهر من كلام المؤلف أن طرق القضاء ثلاثة بينة ، وإقرار ونكول وصرحوا بأن منها علم القاضي بشيء ينفذ القضاء في غير الحدود ، وأما القصاص فله القضاء به بعلمه كما في الخلاصة وتركه المصنف للاختلاف ، وظاهر ما في جامع الفصولين أن الفتوى على أن القاضي لا يقضي بعلمه لفساد قضاة الزمان ، وسيأتي أن القسامة من طرق القضاء بالدية فهي خمس وزاد ابن الغرس سادسا لم أره إلى الآن لغيره فقال : والحجة إما البينة أو الإقرار أو اليمين أو النكول عنه أو القسامة أو علم القاضي بما يريد أن يحكم به أو القرائن الدالة على ما يطلب الحكم به دلالة واضحة بحيث تصيره في حيز المقطوع به فقد قالوا لو ظهر إنسان من دار ، ومعه سكين في يده ، وهو متلوث بالدماء سريع الحركة عليه أثر الخوف فدخلوا الدار في ذلك الوقت على الفور فوجدوا بها إنسانا مذ بوحا لذلك الحين ، وهو متضمخ بدمائه ، ولم يكن في الدار غير ذلك الرجل الذي وجد بتلك الصفة ، وهو خارج من الدار أنه يؤخذ به إذ لا يمتري أحد في أنه قاتله والقول بأنه ذبح نفسه أو أن غير ذلك الرجل قتله ثم تسور الحائط فذهب إلى غير ذلك احتمال بعيد لا يلتفت إليه إذ لم ينشأ عن دليل . ا هـ .

                                                                                        قيدنا السكوت لغير آفة ; لأن سكوته لخرس أو طرش عذر كذا في الاختيار .

                                                                                        ثم اعلم أن القضاء بالنكول لا يمنع المقضي عليه من إقامة البينة بما يبطله لما [ ص: 206 ] في الخانية من باب ما يبطل دعوى المدعي رجل اشترى من رجل عبدا فوجد به عيبا فخاصم البائع فأنكر البائع أن يكون العيب عنده فاستحلف فنكل فقضى القاضي عليه ، وألزمه العبد ثم قال البائع بعد ذلك قد كنت تبرأت إليه من هذا العيب ، وأقام البينة قبلت بينته . ا هـ .

                                                                                        وفي البزازية إذا شك فيما يدعي عليه ينبغي أن يرضى خصمه ، ولا يحلف احترازا عن الوقوع في الحرام ، وإن أبى خصمه إلا حلفه إن أكبر رأيه أن المدعي محق لا يحلفه ، وإن أنه مبطل ساغ له الحلف ادعى عليه عند القاضي مالا فلم يقر ، ولم ينكر ، وقال أبرأني المدعي عن هذه الدعوى وعن حلفه ينظر إن كان المدعي برهن على دعواه حلف هو على عدم الإبراء ، وإن لم يكن له بينة يحلف المدعى عليه عند المتقدمين وخالفهم بعض المتأخرين ، وقول المتقدمين أحسن ، وإذا قال المدعى عليه بعد الإنكار أبرأني المدعي وطلب حلفه على عدم الإبراء يحلف المدعى عليه أولا فإن نكل يحلف المدعي ذكرهما الفضلي . ا هـ .

                                                                                        ثم اعلم أن حكم أداء اليمين انقطاع الخصومة للحال مؤقتا إلى غاية إحضار البينة عند العامة ، وقيل انقطاعها مطلقا فلو أقام المدعي البينة بعد يمين المدعى عليه قبلت عند العامة لا عند البعض والصحيح قول العامة ; لأن البينة هي الحجة في الأصل فأما اليمين فكالخلف عن البينة ; لأنها كلام الخصم صير إليها للضرورة فإذا جاء الأصل انتهى حكم الخلف كأنه لم يوجد أصلا ، ولو قال المدعي للمدعى عليه احلف ، وأنت بريء من هذا الحق الذي ادعيت أو أنت بريء من هذا الحق ثم أقام البينة قبلت ; لأن قوله أنت بريء يحتمل البراءة للحال أي بريء عن دعواه وخصومته للحال ويحتمل البراءة عن الحق فلا يجعل إبراء بالشك كذا في السراج الوهاج وذكر الشارح ، وهل يظهر كذب المنكر بإقامة البينة والصواب أنه لا يظهر كذبه حتى لا يعاقب عقوبة شاهد الزور ، ولا يحنث في يمينه أنه كان لفلان علي ألف فادعى عليه فأنكر فحلف ثم أقام المدعي البينة أن له عليه ألفا ، وقيل عند أبي يوسف يظهر كذبه وعند محمد لا يظهر . ا هـ .

                                                                                        وفي الخانية من الطلاق والفتوى على أنه يحنث ، وهو قول أبي يوسف ، وإحدى الروايتين عن محمد . ا هـ .

                                                                                        وفي الولوالجية من فصل الإقرار بالطلاق رجل ادعى على آخر ألف درهم فقال المدعى عليه امرأته طالق إن كان له علي ألف فقال المدعي امرأتي طالق إن لم يكن لي عليك ألف ، وأقام المدعي البينة على حق ، وقضى القاضي فرق بين المدعى عليه وبين امرأته عند أبي يوسف وعن محمد روايتان في رواية يفرق بينهما ، وفي رواية لا يفرق ويفتى بأنه يفرق ، ولو أقام المدعى عليه البينة بأنه قد أوفاه ألفا قبل دعواه وكان تفريق القاضي بينه وبين امرأته باطلا ; لأنه تبين أنه أخطأ فيه وتطلق امرأة المدعي إن زعم أنه لم يكن له على المدعى عليه إلا هذا الألف ; لأنه تبين أنه حانث هذا إذا أقام المدعي البينة على الألف أما إذا أقام البينة على إقرار المدعى عليه بالألف لم يفرق القاضي بين المدعى عليه وبين امرأته ; لأن شرط الحنث كون الألف عليه ، وهذا محتمل والقاضي يقضي بالإقرار بالألف ، والإقرار محتمل هكذا ذكر في بعض المواضع . ا هـ .

                                                                                        وفي جامع الفصولين والفتوى في مسألة الدين [ ص: 207 ] أنه لو ادعاه بلا سبب فحلف ثم برهن ظهر كذبه ، ولو ادعاه بسبب وحلف أنه لا دين عليه ثم برهن على السبب لا يظهر كذبه لجواز أنه وجد القرض ثم وجد الإبراء والإيفاء . ا هـ .

                                                                                        فإن قلت هل يقضى بالنكول عن اليمين لنفي التهمة كالأمين إذا ادعى الرد أو الهلاك فحلف فنكل وعن اليمين التي للاحتياط في مال الميت كما قدمناه قلت أما الأول فنعم كما في القنية ، وأما الثانية فلم أره ا هـ .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : ولا وجه لرد اليمين ) أي على المدعي ، وقوله : لما قدمناه إشارة لقوله ولا ترد اليمين على المدعي لقوله عليه السلام { البينة على المدعي } إلخ كفاية ( قوله : إن النكول لا يوجب شيئا إلا إذا اتصل القضاء به ) أما الإقرار فهو حجة بنفسه لا يتوقف على القضاء ولفظ فيه مجاز كما تقدم نقله عن المعراج عند قوله فإن أقر أو أنكر إلخ ( قوله : ولم يبين الفور بماذا يكون ) قال بعض الفضلاء هو ظاهر ، وهو أن يقضي عقبه من غير تراخ قبل تكراره أو بعده على القولين ( قوله : وصرحوا بأن منها علم القاضي إلخ ) قال الرملي أي علمه الحادث بعد تقليده القضاء فلا يقضى إلا بعلمه المتقدم عليه ( قوله : لم أره إلى الآن لغيره ) صريح قول ابن الغرس فقد قالوا : إنه منقول عنهم لا أنه قاله من عند نفسه وعدم رؤية المؤلف له لا تقتضي عدم وجوده في كلامهم والمثبت مقدم لكن في حاشية الرملي على المنح ولا شك في أن ما زاده ابن الغرس غريب خارج عن الجادة فلا ينبغي التعويل عليه ما لم يعضده نقل من كتاب معتمد فلا تغتر به والله تعالى أعلم .

                                                                                        ( قوله : ثم اعلم أن القضاء بالنكول لا يمنع المقضي عليه من إقامة البينة ) عبارته في الأشباه وتسمع الدعوى بعد القضاء بالنكول كما في الخانية قال محشيها الحموي في الخانية في باب ما يبطل دعوى المدعي ما يخالف ما ذكره وعبارته ادعى عبدا في يد رجل أنه له فجحد المدعى عليه فاستحلفه فنكل ، وقضي عليه بالنكول ثم إن المقضي عليه أقام البينة أنه كان اشترى هذا العبد من المدعي قبل دعواه لا تقبل هذه البينة إلا أن يشهد أنه كان اشتراه منه بعد القضاء وذكر في موضع آخر أن المدعى عليه لو قال كنت اشتريته منه قبل الخصومة ، وأقام البينة قبلت بينته ويقضى له . ا هـ .

                                                                                        قلت : وسيذكر المؤلف في فصل دفع الدعوى عن البزازية وكما يصح الدفع قبل البرهان يصح بعد إقامته أيضا وكذا يصح قبل الحكم كما يصح بعده [ ص: 206 ] ودفع الدفع ودفعه والأكثر صحيح في المختار وسنذكر تمامه هناك لكن سيذكر المؤلف في أول فصل دعوى الخارجين عن النهاية ما نصه ولو لم يبرهنا حلف صاحب اليد فإن حلف لهما تترك في يده قضاء ترك لا قضاء استحقاق حتى لو أقاما البينة بعد ذلك يقضى بها وإن نكل لهما جميعا يقضى به بينهما نصفين ثم بعده إذا أقام صاحب اليد البينة أنه ملكه لا يقبل وكذا إذا ادعى أحد المستحقين على صاحبه ، وأقام بينة أنها ملكه لا تقبل لكونه صار مقضيا عليه . ا هـ .

                                                                                        ولعله مبني على القول الآخر المقابل للقول المختار تأمل ( قوله : وفي جامع الفصولين والفتوى في مسألة الدين إلخ ) قال في نور العين حلف أن لا دين عليه ثم برهن عليه المدعي فعند محمد لا يظهر كذبه في يمينه إذ البينة حجة من حيث الظاهر وعند أبي يوسف يظهر كذبه فيحنث والفتوى في مسألة الدين أنه لو ادعاه بلا سبب فحلف ثم برهن عليه يظهر كذبه ولو ادعاه بسبب وحلف أنه لا دين عليه ثم برهن على السبب لا يظهر كذبه لجواز أن وجد القرض ثم وجد الإيفاء أو الإبراء ( قت ) حلف بطلاق أو عتق ما له عليه شيء فشهدا عليه بدين له ، وألزمه القاضي ، وهو ينكر قال أبو يوسف يحنث .

                                                                                        وقال محمد لا يحنث ; لأنه لا يدري لعله صادق والبينة حجة من حيث الظاهر فلا يظهر كذبه في يمينه ذكر محمد في ( ح ) قال امرأته طالق إن كان لفلان عليه شيء فشهدا أن فلانا أقرضه كذا قبل يمينه وحكم بالمال لم يحنث ولو شهدا أن لفلان عليه شيئا وحكم به حنث ; لأنه جعل شرط حنثه وجوب شيء من المال عليه وقت اليمين وحين شهدا بالقرض لم يظهر كون المال عليه وقت الحلف بخلاف ما لو شهدا أن المال عليه يقول الحقير قوله : بخلاف ما شهدا محل نظر إذ كيف يظهر كون المال عليه إذا شهدا بأن المال عليه بعد أن مر آنفا أن البينة حجة ظاهرة فلا يظهر كذبه في يمينه ، وأيضا يرد عليه أن يقال فعلى ما ذكر ثم ينبغي أن يحنث في مسألة الحلف بطلاق أو عتق أيضا إذ لا شك أن الحلف عليهما لا يكون إلا بطريق الشرط أيضا .

                                                                                        والحاصل أنه ينبغي أن يتحد حكم المسألتين نفيا أو إثباتا والفرق تحكم فالعجب كل العجب من التناقض بين كلامي محمد رحمه الله تعالى مع أنه إمام ذوي الأدب [ ص: 207 ] والأرب إلا أن تكون إحدى الروايتين عنه غير صحيحة . ا هـ . ما قاله في أواخر الخامس عشر .

                                                                                        ( قوله : وأما الثانية فلم أره ) قال الرملي والوجه يقتضي القضاء بالنكول فيها أيضا إذ فائدة الاستحلاف القضاء بالنكول كما هو ظاهر تأمل .




                                                                                        الخدمات العلمية