الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 293 ] 12 - باب: صدقة العلانية وقوله: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية إلى ولا هم يحزنون [البقرة: 274] [فتح: 3 \ 288].

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              اختلف في سبب نزول هذه الآية:

                                                                                                                                                                                                                              فروى مجاهد عن ابن عباس : أنها نزلت في علي بن أبي طالب، كان معه أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما، وبالنهار درهما، وسرا درهما، وعلانية درهما .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الأوزاعي : نزلت في الذين يرتبطون الخيل خاصة في سبيل الله ينفقون عليها بالليل والنهار .

                                                                                                                                                                                                                              وقال قتادة : نزلت في من أنقق ماله في سبيل الله; لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا -عن يمينه وعن شماله- وقليل ما هم" هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله الذي افترض وارتضى في غير سرف ولا إملاق ولا تبذير ولا فساد .

                                                                                                                                                                                                                              ونقل الواحدي قول الأوزاعي عن جماعة غيره: أبي أمامة وأبي الدرداء ومكحول. قال: والأوزاعي، عن رباح . ورواه ابن غريب، عن أبيه، عن جده مرفوعا ، ووافق مجاهد والكلبي الأول، زاد [ ص: 294 ] الكلبي: فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما حملك على هذا؟ " قال: حملني أن أستوجب على الله الذي وعدني. فقال له: "ألا إن ذلك لك" فأنزل الله هذه الآية . وفي "الكشاف": نزلت في أبي بكر إذ أنفق أربعين ألف دينار عشرة آلاف سرا، ومثلها جهرا، ومثلها ليلا، ومثلها نهارا .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الطبري عن آخرين: عني بها قوم أنفقوا في سبيل الله في غير إسراف ولا تقتير . وهذا سلف.

                                                                                                                                                                                                                              فروي عن ابن عباس أن قوله تعالى: إن تبدوا الصدقات فنعما هي [البقرة: 271] إلى قوله: ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [البقرة: 274] كان هذا يعمل به قبل أن تنزل براءة، فلما نزلت براءة بفرائض الصدقات انتهت الصدقات إليها . وقال قتادة : إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها [البقرة: 271] كل مقبول إذا كانت النية صادقة، وصدقة السر أفضل. وذكر لنا أن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وقاله أيضا الربيع . وعن ابن عباس : جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها، يقال: بسبعين ضعفا. وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها، يقال: بخمسة وعشرين ضعفا. وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 295 ] وقال سفيان: سوى الزكاة . وهذا قول كالإجماع.

                                                                                                                                                                                                                              وقال آخرون: إنما عنى بـ: إن تبدوا الصدقات يعني: على أهل الكتابين من اليهود والنصارى إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " قالوا: فأما من أعطى فقراء المسلمين من زكاة وصدقة وتطوع فإخفاؤه أفضل، ذكر ذلك يزيد بن أبي حبيب وقال: إنما أنزلت فيهم .

                                                                                                                                                                                                                              قال الطبري : لم يخص الله صدقة دون صدقة، وذلك على العموم إلا ما كان من زكاة واجبة، فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه، وإظهار سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها مع إجماع جميعهم على أنها واجبة، فحكمها في أن الفضل في أدائها علانية حكم سائر الفرائض غيرها .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحسن: إظهار الزكاة أفضل، وإخفاء التطوع أفضل.

                                                                                                                                                                                                                              وعند الزجاج: كانت صدقة الزكاة سرا أيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما اليوم فالظن يساء بمن لم يظهرها. وروى أبو الفضل الجوزي من حديث القاسم، عن أبي أمامة أن أبا ذر سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الصدقة أفضل؟ قال: "سر إلى فقير أو جهد من مقل" ثم تلا: إن تبدوا الصدقات فنعما هي .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 296 ] وعن الشعبي : لما نزلت: إن تبدوا الصدقات جاء عمر بنصف ماله يحمله على رءوس الناس، وجاء أبو بكر بجميع ماله يكاد أن يخفيه من نفسه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما تركت لأهلك؟ " قال: عدة الله وعدة رسوله .

                                                                                                                                                                                                                              واعلم أن البخاري لم يذكر في الباب حديثا، وكأنه -والله أعلم- اكتفى بما أسلفه في الصلاة من الأمر بالصدقة والمبادرة إليها.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية