الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              القول في العموم إذا خص

              القول في العموم إذا خص هل يصير مجازا في الباقي ، وهل يبقى حجة ؟ ، وهما نظران :

              أما صيرورته مجازا فقد اختلفوا فيه على أربعة مذاهب : فقال قوم : يبقى حقيقة لأنه كان متناولا لما بقي حقيقة فخروج غيره عنه لا يؤثر وقال قوم : يصير مجازا لأنه وضع للعموم ، فإذا أريد به غير ما وضع له بالقرينة كان مجازا ، وإن لم يكن هذا مجازا فلا يبقى للمجاز معنى ، ولا يكفي تناوله مع غيره لأنه لا خلاف أنه لو رد إلى ما دون أقل الجمع صار مجازا فإذا قال : لا تكلم الناس ، ثم قال : أردت زيدا خاصة كان مجازا ، وإن كان هو داخلا فيه وقال قوم : هو حقيقة في تناوله مجاز في الاقتصار عليه .

              وهذا ضعيف ، فإنه لو رد إلى الواحد كان مجازا مطلقا لأنه تغير عن وضعه في الدلالة فالسارق مهما صار عبارة عن سارق النصاب خاصة فقد تغير الوضع واستعمل لا على الوجه الذي وضعته العرب وقد اختار القاضي في التفريع على مذهب أرباب العموم أنه صار مجازا ، لكن قال إنما يصير مجازا إذا أخرج منه البعض بدليل منفصل من عقل أو نقل ، أما ما خرج بلفظ متصل كالاستثناء فلا يجعله مجازا بل يصير الكلام بسبب الزيادة المتصلة به كلاما آخر موضوعا لشيء آخر ، فإنا نزيد الواو ، والنون في قولنا مسلم " فنقول " مسلمون " فيدل على أمر زائد ، ولا نجعله مجازا ، ونزيد الألف ، واللام على قولنا رجل " فنقول الرجل " فيزيد فائدة أخرى ، وهي التعريف ; لأن هذه صارت صيغة أخرى بهذه الزيادة فجاز أن يدل على معنى آخر ، ولا فرق بين أن نزيد حرفا أو كلمة ، فإذا قال : يقطع السارق إلا من سرق دون النصاب كان مجموع هذا الكلام موضوعا للدلالة على ما دل عليه ، فقوله : تعالى : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } دل على تسعمائة ، وخمسين لا على سبيل المجاز بل [ ص: 234 ] الوضع كذلك وضع وكأن العرب وضعت عن تسعمائة ، وخمسين عبارتين إحداهما ألف سنة إلا خمسين ، والأخرى تسعمائة ، وخمسون ، ويمكن أن يقال : ما صار عبارة بالوضع عن هذا القدر بل بقي الألف للألف ، والخمسون للخمسين ، وإلا للرفع بعد الإثبات ، ونحن بعلم الحساب عرفنا أن هذا تسعمائة ، وخمسون ، فإنا إذا وضعنا ألفا ، ورفعنا خمسين علمنا مقدار الباقي بعلم الحساب فلا نقول المجموع صار عبارة موضوعة عن هذا العدد ، وهذا أدق ، وأحق لا كزيادة الألف ، واللام ، والياء ، والنون على المسلم فإن تلك الزيادة لا معنى لها بغير اللفظ الأول .

              فإن قيل لو قال الله تعالى : { اقتلوا المشركين } فقال الرسول متصلا به : " إلا زيدا " فهل يكون هذا كالمتصل الذي لا يجعل لفظ المشركين مجازا في الباقي ؟ قلنا : اختلفوا فيه ، والظاهر أن هذا من غير المتكلم يجري مجرى الدليل المنفصل من قياس العقل ، والنقل ، ولهذا لو قال زيد وقال غيره قام ، لا يصير خبرا حتى يصدر من الأول قوله : " قام " لأن نظم الكلام إنما يكون من متكلم واحد ، وذلك يجعله خبرا فإن قيل : فلو أخرج بالاستثناء عن لفظ المشركين الجميع إلا زيدا فهل يصير لفظ المشركين مجازا ؟ قلنا : نعم ، لأنه للجمع بالاتفاق ، والخلاف في أنه مستغرق أو غير مستغرق فهو عند أرباب العموم عند الاستثناء لجمع غير مستغرق دون الاستثناء لجمع مستغرق .

              وأما النظر الثاني في كونه حجة في الباقي فقد قال قوم من القائلين بالعموم : إنه لا يبقى حجة بل صار مجملا ، وإليه ذهبت القدرية لأنه إذا لم يترك على الوضع فلا يبقى للفهم معتمد سوى القرينة وتلك القرينة غير معينة فلا يهتدى إليها ، ومن هؤلاء من قال : أقل الجمع يبقى لأنه مستيقن واحتج القائلون بكونه مجملا بأن السارق إذا خرج منه سارق ما دون النصاب ، والسارق من غير الحرز ، ومن يستحق النفقة ، وغير ذلك ، فبم يفهم المراد منه على سبيل الحصر وقد خرج الوضع من أيدينا ، ولا قرينة تفصل ، وتحصر فيبقى مجملا ؟ ، والصحيح أنه يبقى حجة إلا إذا استثنى منه مجهولا ، كما لو قال " اقتلوا المشركين إلا رجلا أما إذا استخرج منه معلوم فإنه يبقى دليلا في الباقي ; ولأجله تمسك الصحابة بالعمومات .

              وما من عموم إلا وقد تطرق إليه التخصيص ، وهذا لأن لفظ السارق يتناول كل سارق بالوضع لولا دليل مخصوص ، والدليل المخصوص صرف دلالته عن البعض ، ولا مسقط لدلالته في الباقي نعم لا يدل اللفظ على إخراج ما خرج فافتقر إلى دليل مخرج وقصوره عنه لا يدل على قصوره عن تناول الباقي ، فمن قال : أعتق رقبة ثم قال لا تعتق معيبة ، ولا كافرة ، لم يخرج به كلامه الأول عن كونه مفهوما ، والرجوع في هذا إلى عادة اللسان ، وأهل اللغة ، وعادات الصحابة إذ لم يطرحوا جميع عمومات الكتاب ، والسنة لتطرق التخصيص إليها ، وعلى الجملة كلام الواقفية في العموم المخصص أظهر لا محالة .

              فإن قيل : قد سلمتم أنه صار مجازا فيفتقر العمل به إلى دليل إذ المجاز لا يعمل به إلا بدليل قلنا : هو حقيقة في وضعه ، والدليل المخصص هو الذي جعله مجازا ، أما سقوط دلالة المجاز فلا وجه له لا سيما المجاز المعروف ، فإنا نتمسك به بغير دليل زائد ، كقوله تعالى : { أو جاء أحد منكم من الغائط } فإنه ، وإن كان مجازا فهو معروف وكذلك التفهيم بالعمومات المخصصة معروف في اللسان ، ولا يمكن اطراحه . [ ص: 235 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية