الفن الثالث من دعامة البرهان في اللواحق
وفيه فصول :
الفصل الأول : في بيان أن ما تنطق به الألسنة في معرض الدليل والتعليل
في بيان أن يرجع إلى الضروب التي ذكرناها ، فإن لم يرجع إليها لم يكن دليلا ، وحيث يذكر لا على ذلك النظم فسببه إما قصور علم الناظر ، أو إهماله إحدى المقدمتين للوضوح ، أو لكون التلبيس في ضمنه حتى لا ينتبه له ، أو لتركيب الضروب وجمع جملة منها في سياق [ ص: 40 ] كلام واحد ، مثال ترك إحدى المقدمتين لوضوحها ، وذلك غالب في الفقهيات والمحاورات احترازا عن التطويل كقول القائل : هذا يجب عليه الرجم ; لأنه زنى وهو محصن ، وتمام القياس أن تقول كل من زنى وهو محصن فعليه الرجم وهذا زنى وهو محصن " ولكن ترك المقدمة الأولى لاشتهارها . ما تنطق به الألسنة في معرض الدليل والتعليل في جميع أقسام العلوم
وكذلك يقال : العالم محدث ، فيقال : لم ؟ فيقول ; لأنه جائز ، ويقتصر عليه ، وتمامه أن يقول كل جائز فله فاعل والعالم جائز فإذا له فاعل " . ويقول في نكاح الشغار : هو فاسد ; لأنه منهي عنه ، وتمامه أن يقول كل منهي عنه فهو فاسد والشغار منهي عنه فهو إذا فاسد ، ولكن ترك الأولى لأنها موضوع النزاع ، ولو صرح بها لتنبه الخصم لها فربما تركها للتلبيس مرة كما تركها للوضوح أخرى .
وأكثر أدلة القرآن كذلك تكون ، مثل قوله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } فينبغي أن يضم إليها ، ومعلوم أنهما لم تفسدا . وقوله تعالى : { إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } وتمامه أنه معلوم أنهم لم يبتغوا إلى ذي العرش سبيلا .
ومثال ما يترك للتلبيس أن يقال فلان خائن في حقك ، فتقول : لم ؟ فيقال لأنه كان يناجي عدوك ، وتمامه أن يقال كل من يناجي العدو فهو عدو وهذا يناجي العدو فهو إذا عدو " ولكن لو صرح به لتنبه الذهن بأن من يناجي العدو فقد ينصحه وقد يخدعه فلا يجب أن يكون عدوا . وربما يترك المقدمة الثانية وهي مقدمة المحكوم عليه ، مثاله أن يقال : لا تخالط فلانا ، فيقول : لم ؟ فيقال : لأن الحساد لا يخالطون ; وتمامه أن يضم إليه : " إن هذا حاسد والحاسد لا يخالط فهذا إذا لا يخالط " .
وسبيل من يريد التلبيس إهمال المقدمة التي التلبيس تحتها استغفالا للخصم واستجهالا له ، وهذا غلط في النظم الأول ويتطرق ذلك إلى النظم الثاني والثالث ، مثاله قولك كل شجاع ظالم ، فيقال : لم ؟ فيقال : لأن الحجاج كان شجاعا وظالما ، وتمامه أن يقول : " الحجاج شجاع والحجاج ظالم فكل شجاع ظالم " . وهذا غير منتج ; لأنه طلب نتيجة عامة من النظم الثالث ، وقد بينا أنه لا ينتج إلا نتيجة خاصة .
وإنما كان من النظم الثالث ; لأن الحجاج هو العلة لأنه المتكرر في المقدمتين لأنه محكوم عليه في المقدمتين ، فيلزم منه أن بعض الشجعان ظالم ، ومن ههنا غلط من حكم على كل المتصوفة أو كل المتفقهة بالفساد إذا رأى ذلك من بعضهم ، ونظم قياسه " أن فلانا متفقه وفلان فاسق فكل متفقه فاسق وذلك لا يلزم ، بل يلزم أن بعض المتفقهة فاسق وكثيرا ما يقع مثل هذا الغلط في الفقه أن يرى الفقيه حكما في موضع معين فيقضي بذلك الحكم على العموم ، فيقول مثلا : البر مطعوم والبر ربوي فالمطعوم ربوي .
وبالجملة مهما كانت العلة أخص من الحكم والمحكوم عليه في النتيجة لم يلزم منه إلا نتيجة جزئية وهو معنى النظم الثالث ، ومهما كانت العلة أعم من المحكوم عليه وأخص من الحكم أو مساوية له كان من النظم الأول وأمكن استنتاج القضايا الأربعة منه ، أعني الموجبة العامة والخاصة والنافية العامة والخاصة . ومهما كانت العلة أعم من الحكم والمحكوم عليه جميعا كان من النظم الثاني ولم ينتج منه إلا النفي ، فأما الإيجاب فلا . ومثال المختلطات المركبة من كل نمط كقولك : " الباري تعالى إن كان على العرش إما مساو أو أكبر أو أصغر وكل مساو وأصغر وأكبر مقدر وكل مقدر فإما أن يكون جسما أو لا [ ص: 41 ] يكون جسما ، وباطل أن لا يكون جسما فثبت أنه جسم ، فيلزم أن يكون الباري تعالى جسما ، ومحال أن يكون جسما فمحال أن يكون على العرش " .
وهذا السياق اشتمل على النظم الأول والثاني والثالث مختلطا كذلك ، فمن لا يقدر على تحليله وتفصيله فربما انطوى التلبيس في تفاصيله وتضاعيفه فلا يتنبه لموضعه ، ومن عرف المفردات أمكنه رد المختلطات إليها فإذا لا يتصور النطق باستدلال إلا ويرجع إلى ما ذكرناه .