مسألة صرف العموم إلى غير الاستغراق
جائز ، وهو معتاد ، أما رده إلى ما دون أقل الجمع فغير جائز ، ولا بد من بيان أقل الجمع وقد اختلفوا فيه ، فقال عمر إنه اثنان ، وبه قال ، وزيد بن ثابت وجماعة وقال مالك ابن عباس ، والشافعي ثلاثة حتى قال ، وأبو حنيفة ابن عباس حين رد الأم من الثلث إلى السدس بأخوين : ليس الأخوان إخوة في لغة قومك ، فقال : حجبها قومك يا غلام وقال لعثمان إذا اقتدى بالإمام ثلاثة اصطفوا خلفه ، وإذا اقتدى اثنان وقف كل واحد عن جانب . ، وهذا يشعر من مذهبه بأنه يرى أقل الجمع ثلاثة ، وليس من حقيقة هذا الخلاف منع جمع الاثنين بلفظ يعمهما فإن ذلك جائز ، ومعتاد ، لكن الخلاف في أن لفظ الناس ، والرجال ، والفقراء ، وأمثاله يطلق على ثلاثة فما زاد حقيقة ، [ ص: 244 ] وهل يطلق على الاثنين حقيقة أم لا ؟ واختار ابن مسعود أن أقل الجمع اثنان واستدل بإجماع أهل اللغة على جواز إطلاق اسم الجمع على اثنين في قولهم " فعلتم ، وفعلنا ، وتفعلون " وقد ورد به القرآن ، قال الله تعالى في قصة القاضي موسى ، وهارون { إنا معكم مستمعون } وقال { عسى الله أن يأتيني بهم جميعا } ، وهما يوسف ، وأخوه وقال { فقد صغت قلوبكما } ، ولهما قلبان وقال { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث } إلى قوله : { وكنا لحكمهم شاهدين } ، وهما اثنان وقال { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } ، وهما طائفتان وقال { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } ، وهما ملكان .
فإن قيل عن كل واحد من هذا جواب فقوله : { إنا معكم مستمعون } يعني : هارون ، وموسى ، وفرعون وقومه ، وهم جماعة وقوله : { قلوبكما } لضرورة استثقال الجمع بين تثنيتين مع أن القلوب على وزن الواحد في بعض الألفاظ وقوله : { عسى الله أن يأتيني بهم جميعا } أراد به يوسف ، وأخاه ، والأخ الأكبر الذي تخلف عن الإخوة ، وقوله تعالى : { وكنا لحكمهم شاهدين } أي : حكمهما مع الجمع المحكوم عليهم ، وقوله : { وإن طائفتان } كل طائفة جمع قلنا : هذه تعسفات ، وتكلفات ، إنما يحوج إليها ضرورة نقل من أهل اللغة في استحالة إطلاق اسم الجمع على الاثنين ، وإذا لم يكن نقل صريح فيحمل خلافهم على الحقيقة كما ورد فإن قيل : ههنا أدلة أربعة .
الأول : أن الاثنين لو كانا جمعا لكان قولنا فعلا اسم جمع فليجز إطلاقه على الثلاثة فصاعدا كقوله " فعلوا " فإنه لما كان اسم جمع جاز على الثلاثة فما فوقها .
قلنا : " فعلوا " اسم جمع مشترك بين سائر أعداد الجمع ، و " فعلا " اسم جمع خاص لأن الجمع لا يستدعي إلا الانضمام ، وذلك يحصل في الاثنين ، وهو كالعشرة فإنه اسم جمع لكن جمع خاص فلا يصلح لغيره ، وكيف ينكر كون الاثنين جمعا ، ويقول الرجلان : نحن فعلنا ؟ فإن قيل قد يقول الواحد ذلك ، كقوله : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } قلنا : ذلك مجاز بالاتفاق ، وهذا ليس بمجاز
الثاني : قولهم أجمع أهل اللغة على أن الأسماء ثلاثة أضرب : توحيد ، وتثنية وجمع ، وهو رجل ، ورجلان ، ورجال فلتكن هذه الثلاثة متباينة .
قلنا : ما قالوا الرجلان ليس اسم جمع لكن وضعوا لبعض أعداد الجمع اسما خاصا كالعشرة وجعلوا اسم الرجال مشتركا .
الثالث : قولهم : فرق في اللسان بين الرجال ، والرجلين ، وما ذكرتموه رفع للفرق . قلنا : الفرق أن الرجلين اسم جمع خاص ، وهو للاثنين ، والرجال اسم جمع مشترك لكل جمع من الاثنين ، والثلاثة فما زاد .
الرابع : قولهم : لو صح هذا لجاز أن يقال : رأيت اثنين رجال كما يقال رأيت ثلاثة رجال قلنا : هذا ممتنع لأن العرب لم تستعمله على هذا الوجه ، ولا يمكن تعدي عرفهم ، وعلى الجملة فمن يرد لفظ الجمع إلى الاثنين ربما يفتقر إلى دليل أظهر ممن يرده إلى الثلاثة ، وإذا رده إلى الواحد فقد غير اللفظ النص بقرينة .
فإن قيل فقد يقول لامرأته أتخرجين ، وتكلمين الرجال ، وربما يريد رجلا واحدا . قلنا : ذلك استعمال لفظ الجمع بدلا [ ص: 245 ] عن لفظ الواحد لتعلق غرض الزوج لجنس الرجال لا أنه عنى بلفظ الرجال رجلا واحدا ، أما إذا أراد رجلين أو ثلاثة فقد ترك اللفظ على حقيقته .