النوع الثاني : من الاستنباط والاكتفاء بمجرد المناسبة في إثبات الحكم مختلف فيه وينشأ منه أن المراد بالمناسب ما هو على منهاج المصالح بحيث إذا أضيف الحكم إليه انتظم مثاله قولنا : حرمت الخمر ; لأنها تزيل العقل الذي هو مناط التكليف وهو مناسب لا كقولنا : حرمت ; لأنها تقذف بالزبد ; أو لأنها تحفظ في الدن فإن ذلك لا يناسب وقد ذكرنا حقيقة المناسب وأقسامه ومراتبه في آخر القطب الثاني من باب الاستحسان والاستصلاح فلا نعيده لكنا نقول : إثبات العلة بإبداء مناسبتها للحكم ومثال المؤثر : التعليل للولاية بالصغر ومعنى كونه مؤثرا أنه ظهر تأثيره في الحكم بالإجماع أو النص ، وإذا ظهر تأثيره فلا يحتاج إلى المناسبة بل قوله : { المناسب ينقسم إلى مؤثر وملائم وغريب } لما دل على تأثير المس قسنا عليه مس ذكر غيره . من مس ذكره فليتوضأ
أما الملائم فعبارة عما لم يظهر تأثير عينه عين ذلك الحكم كما في الصغر لكن ظهر تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم مثاله قوله : لا يجب على الحائض قضاء الصلاة دون الصوم لما في قضاء الصلاة من الحرج بسبب كثرة الصلاة ، وهذا قد ظهر تأثير جنسه ; لأن لجنس المشقة تأثيرا في التخفيف أما هذه المشقة نفسها ، وهي مشقة التكرر فلم يظهر تأثيرها في موضع آخر نعم لو كان قد ورد النص بسقوط قضاء الصلاة عن الحرائر الحيض وقسنا عليهن الإماء لكان ذلك تعليلا بما ظهر تأثير عينه في عين الحكم لكن في محل مخصوص فعديناه إلى محل آخر ومثاله أيضا [ ص: 312 ] قولنا :
إن قليل النبيذ وإن لم يسكر حرام قياسا على قليل الخمر ، وتعليلنا قليل الخمر بأن ذلك منه يدعو إلى كثيره ، فهذا مناسب لم يظهر تأثير عينه لكن ظهر تأثير جنسه إذ الخلوة لما كانت داعية إلى الزنا حرمها الشرع كتحريم الزنا ، فكان هذا ملائما لجنس تصرف الشرع ، وإن لم يظهر تأثير عينه في الحكم ، وأما الغريب الذي لم يظهر تأثيره ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشرع فمثاله قولنا :
إن الخمر إنما حرمت لكونها مسكرة ففي معناها كل مسكر ولم يظهر أثر السكر في موضع آخر لكنه مناسب ، وهذا مثال الغريب لو لم يقدر التنبيه بقوله : { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر } ومثاله أيضا قولنا المطلقة ثلاثا في مرض الموت ترث ; لأن الزوج قصد الفرار من ميراثها فيعارض بنقيض قصده قياسا على القاتل ، فإنه لا يرث ; لأنه يستعجل الميراث فعورض بنقيض قصده فإن تعليل حرمان القاتل بهذا تعليل بمناسب لا يلائم جنس تصرفات الشرع ; لأنا لا نرى الشرع في موضع آخر قد التفت إلى جنسه فتبقى مناسبة مجردة غريبة
ولو علل الحرمان بكونه متعديا بالقتل وجعل هذا جزاء على العدوان كان تعليلا بمناسب ملائم ليس بمؤثر ; لأن الجناية بعينها ، وإن ظهر تأثيرها في العقوبات فلم يظهر تأثيرها في الحرمان عن الميراث فلم يؤثر في عين الحكم وإنما أثر في جنس آخر من الأحكام فهو من جنس الملائم لا من جنس المؤثر ولا من جنس الغريب فإذا عرفت مثال هذه الأقسام الثلاثة فاعلم أن المؤثر مقبول باتفاق القائلين بالقياس
وقصر أبو زيد الدبوسي القياس عليه ، وقال : لا يقبل إلا مؤثر ، ولكن أورد للمؤثر أمثلة عرف بها أنه قبل الملائم لكنه سماه أيضا مؤثرا وذكرنا تفصيل أمثلته والاعتراض عليها في كتاب شفاء الغليل " ولا سبيل إلى الاقتصار على المؤثر ; لأن المطلوب غلبة الظن ، ومن استقرأ أقيسة الصحابة رضي الله عنهم واجتهاداتهم علم أنهم لم يشترطوا في كل قياس كون العلة معلومة بالنص والإجماع ، وأما المناسب الغريب فهذا في محل الاجتهاد
ولا يبعد عندي أن يغلب ذلك على ظن بعض المجتهدين ، ولا يدل دليل قاطع على بطلان اجتهاده فإن قيل : يدل على بطلانه أنه متحكم بالتعليل من غير دليل يشهد لإضافة الحكم إلى علته قلنا إثبات الحكم على وفقه يشهد لملاحظة الشرع له ويغلب ذلك على الظن
فإن قيل : قولكم إثبات الحكم على وفقه تلبيس إذ معناه أنه تقاضى الحكم بمناسبة ، وبعث الشارع على الحكم فأجاب باعثه وانبعث على وفق بعثه وهذا تحكم ; لأنه يحتمل أن يكون حكم الشرع بتحريم الخمر تعبدا وتحكما كتحريم الخنزير والميتة والدم والحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير مع تحليل الضبع والثعلب على بعض المذاهب وهي تحكمات لكن اتفق معنى الإسكار في الخمر فظن أنه لأجل الإسكار ، ولم يتفق مثله في الميتة والخنزير فقيل إنه تحكم
وهذا على تقدير عدم التنبيه في القرآن بذكر العداوة والبغضاء ، ويحتمل أن يكون معنى آخر مناسب لم يظهر لنا ، ويحتمل أن يكون للإسكار ، فهذه ثلاثة احتمالات فالحكم بواحد من هذه الثلاثة تحكم بغير دليل ، وإلا فبم يترجح هذا الاحتمال ؟ وهذا لا ينقلب في المؤثر ، فإنه عرف كونه علة بإضافة الحكم إليه نصا أو إجماعا كالصغر وتقديم الأخ [ ص: 313 ] للأب والأم
والجواب أنا نرجح هذا الاحتمال على احتمال التحكم بما رددنا به مذهب منكري القياس كما في المؤثر فإن العلة إذا أضيف الحكم في محل احتمل أن يكون مختصا بذلك المحل كما اختص تأثير الزنا بالمحصن وتأثير السرقة بالنصاب ، فلا يبعد أن يؤثر الصغر في ولاية المال دون ولاية البضع وامتزاج الأخوة في التقديم في الميراث دون الولاية ، وبه اعتصم نفاة القياس قيل لهم : علم من الصحابة رضي الله عنهم اتباع العلل واطراح تنزيل الشرع على التحكم ما أمكن فكذلك ههنا ، ولا فرق
وأما قولهم لعل فيه معنى آخر مناسبا هو الباعث للشارع ، ولم يظهر لنا ، وإنما مالت أنفسنا إلى المعنى الذي ظهر لعدم ظهور الآخر لا لدليل دل عليه ، فهو وهم محض ; فنقول : غلبة الظن في كل موضع تستند إلى مثل هذا الوهم وتعتمد انتفاء الظهور في معنى آخر لو ظهر لبطلت غلبة الظن ولو فتح هذا الباب لم يستقم قياس ، فإن العلة الجامعة بين الفرع والأصل وإن كانت مؤثرة فإنما يغلب على الظن الإجماع لعدم ظهور الفرق
ولعل فيه معنى لو ظهر لزالت عنه غلبة الظن ولعدم علة معارضة لتلك العلة ، فلو ظهر أصل آخر يشهد للفرع بعلة أخرى تناقض العلة الأولى لاندفع غلبة الظن بل يحصل الظن من صيغ العموم والظواهر بشرط انتفاء قرينة مخصصة لو ظهرت لزال الظن لكن إذا لم تظهر جاز التعويل عليه ; وذلك لأنه لم يظهر لنا من إجماع الصحابة رضي الله عنهم على الاجتهاد إلا اتباع الرأي الأغلب وإلا فلم يضبطوا أجناس غلبة الظن ، ولم يميزوا جنسا عن جنس ، فإن سلمتم حصول الظن بمجرد المناسبة وجب اتباعه
فإن قيل : لا نسلم أن هذا ظن بل هو وهم مجرد ، فإن التحكم محتمل ومناسب آخر لم يظهر لنا محتمل ، وهذا الذي ظهر محتمل ، ووهم الإنسان مائل إلى طلب علة وسبب لكل حكم ، ثم إنه سباق إلى ما ظهر له وقاض بأنه ليس في الوجود إلا ما ظهر له فتقضي نفسه بأنه لا بد من سبب ولا سبب إلا هذا ، فإذا هو السبب ، فقوله " لا بد من سبب " إن سلمناه ولم ينزل على التحكم ونقول بلا علة ولا سبب فقوله :
" لا سبب إلا هذا " تحكم مستنده أنه لم يعلم إلا هذا فجعل عدم علمه بسبب آخر علما بعدم سبب آخر ، وهو غلط .
وبمثل هذا الطريق أبطلتم القول بالمفهوم إذ مستند القائل به أنه لا بد من باعث على التخصيص ، ولم يظهر لنا باعث سوى اختصاص الحكم ، فإذا هو الباعث ، إذ قلتم بما عرفتم أنه لا باعث سواه ؟ فلعله بعثه على التخصيص باعث لم يظهر لكم ؟ وهذا كلام واقع في إمكان التعليل بمناسب لا يؤثر ولا يلائم .
والجواب : أن هذا استمداد من مأخذ نفاة القياس ، وهو منقلب في المؤثر والملائم ، فإن الظن الحاصل به أيضا يقابله احتمال التحكم واحتمال فرق ينقدح واحتمال علة تعارض في هذه العلة في الفرع ، ولا فرق بين هذه الاحتمالات ، ولولاها لم يكن الإلحاق مظنونا بل مقطوعا كإلحاق الأمة بالعبد وفهم الضرب من التأفيف وقول القائل : إن هذا وهم وليس بظن ليس كذلك ، فإن الوهم عبارة عن ميل النفس من غير سبب مرجح والظن عبارة عن الميل بسبب ، ومن بنى أمره في المعاملات الدنيوية على الوهم سفه في عقله
ومن بناه على الظن كان معذورا حتى لو تصرف في مال الطفل بالوهم ضمن ولو تصرف بالظن لم يضمن ، فمن رأى مركب الرئيس على باب دار السلطان فاعتقد أن الرئيس ليس في داره بل في دار [ ص: 314 ] السلطان وبنى عليه مصلحته لم يعد متوهما ، وإن أمكن أن يكون الرئيس قد أعار مركبه أو ركبه الركابي في شغل ، ومن رأى الرئيس أمر غلامه بضرب رجل وكان قد عرف أنه يشتم الرئيس فحمل ضربه على أنه شتمه كان معذورا
ومن رأى ماعزا أقر بالزنا ثم رأى النبي عليه السلام قد أمر برجمه فاعتقد أنه أمر برجمه لزناه وروى ذلك كان معذورا ظانا ولم يكن متوهما ، ومن عرف شخصا بأنه جاسوس ثم رأى السلطان قد أمر بقتله فحمله عليه لم يكن متوهما فإن قيل : لا بل يكون متوهما ، فإنه لو عرف من عادة الرئيس أنه يقابل الإساءة بالإحسان ولا يضرب من يشتمه وعرف من عادة الأمير الإغضاء عن الجاسوس إما استهانة أو استمالة ثم رآه قتل جاسوسا فحكم بأنه قتله لتجسسه فهو متوهم متحكم
أما إذا عرف من عادته ذلك فتكون عادته المطردة علامة شاهدة لحكم ظنه ; ووزانه من مسألتنا الملائم الذي التفت الشرع إلى مثله وعرف من عادته ملاحظة عينه أو ملاحظة جنسه ، وكلامنا في الغريب الذي ليس بملائم ولا مؤثر .
والجواب : أن ههنا ثلاث مراتب : إحداها : أن يعرف أن من عادة الرئيس الإحسان إلى المسيء ومن عادة الأمير الإغضاء عن الجاسوس ، فهذا يمنع تعليل الضرب والقتل بالشتم والتجسس ، ووزانه أن يعلل الحكم بمناسب أعرض الشرع منه وحكم بنقيض موجبه ، فهذا لا يعول عليه ; لأن الشرع كما التفت إلى مصالح فقد أعرض عن مصالح فما أعرض عنه لا يعلل به .
والثانية : أن يعرف من عادة الرئيس والأمير ضرب الشاتم وقتل الجاسوس ، فوزانه الملائم ، وهذا مقبول وفاقا من القائسين ، وإنما النظر في رتبة ثالثة ، وهو من لم تعرف له عادة أصلا في الشاتم والجاسوس ، فنحن نعلم أنه ضرب وقتل غلب على ظنون العقلاء الحوالة عليه وأنه سلك مسلك المكافأة ; لأن الجريمة تناسب العقوبة .
فإن قيل : لأن أغلب عادة الملوك ذلك والأغلب أن طبائعهم تتقارب قلنا : فليس في هذا إلا الأخذ بالأغلب ، وكذلك أغلب عادات الشرع في غير العبادات اتباع المناسبات والمصالح دون التحكمات الجامدة ، فتنزيل حكمه عليه أغلب على الظن ويبقى أن يقال لعله حكم بمناسب آخر لم يظهر لنا .
فنقول : ما بحثنا عنه بحسب جهدنا فلم نعثر عليه فهو معدوم في حقنا ، ولم يكلف المجتهد غيره ، وعليه دلت أقيسة الصحابة والتمسك بالمؤثر والملائم ، لقول النبي عليه السلام { } معناه : لم لم تفهم أن القبلة مقدمة الوقاع والمضمضة مقدمة الشرب ؟ فلو قال أرأيت لو تمضمضت ؟ : لعلك عفوت عن المضمضة لخاصية في المضمضة أو لمعنى مناسب لم يظهر لي ، ولا يتحقق ذلك في القبلة . عمر
لم يقبل منه ذلك وعد ذلك مجادلة . وكذلك قوله : { } وكذلك كل قياس نقل عن الصحابة وبالجملة إذا فتح باب القياس فالضبط بعده غير ممكن ، لكن يتبع الظن ، والظن على مراتب وأقواه المؤثر ، فإنه لا يعارضه إلا احتمال التعليل بتخصيص المحل ، ودونه الملائم ، ودونه المناسب الذي لا يلائم ، وهو أيضا درجات وإن كان على ضعف ، ولكن يختلف باختلاف قوة المناسبة ، وربما يورث الظن لبعض المجتهدين في بعض المواضع فلا يقطع ببطلانه . أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه ؟
ولا يمكن ضبط درجات المناسبة أصلا بل لكل مسألة ذوق آخر ينبغي أن ينظر فيه المجتهد ، وأما المفهوم فلا يبعد أيضا أن يغلب في بعض المواضع على ظن بعض [ ص: 315 ] المجتهدين ، وعند ذلك يعسر الوقوف على أن ذلك الظن حصل بمجرد التخصيص وحده أو به مع قرينة ، فلا يبعد أن يقال : هو مجتهد فيه ، وليس مقطوعا ، فإنه ظهر لنا صيغة العموم بمجردها إذا تجردت عن القرائن أفادت العموم ، وليس يفهم ذلك من مجرد لفظ التخصيص ، وإن كان يمكن انقداحه في النفس في بعض المواضع فليكن ذلك أيضا في محل الاجتهاد .
وقد خرج على هذا أن المعنى باعتبار الملاءمة وشهادة الأصل المعين أربعة أقسام : ملائم يشهد له أصل معين يقبل قطعا عند القائسين ومناسب لا يلائم ، ولا يشهد له أصل معين فلا يقبل قطعا عند القائسين ، فإنه استحسان ووضع للشرع بالرأي ، ومثاله حرمان القاتل لو لم يرد فيه نص لمعارضته بنقيض قصده ، فهذا وضع للشرع بالرأي ومناسب يشهد له أصل معين لكن لا يلائم فهو في محل الاجتهاد وملائم لا يشهد له أصل معين ، وهو الاستدلال المرسل ، وهو أيضا في محل الاجتهاد ، وقد ذكرناه في باب الاستصلاح في آخر القطب الثاني وبينا مراتبه .