مسألة كل حكم شرعي أمكن تعليله فالقياس جار فيه .
، فلله تعالى في إيجاب الرجم والقطع على الزاني والسارق حكمان أحدهما إيجاب الرجم ، والآخر : نصب الزنا سببا لوجوب الرجم فيقال : وجب الرجم في الزنا لعلة كذا وتلك العلة موجودة في اللواط فنجعله سببا وإن كان لا يسمى زنا . وحكم الشرع نوعان : أحدهما : نفس الحكم والثاني : نصب أسباب الحكم
وأنكر أبو زيد الدبوسي هذا النوع من التعليل وقال : الحكم يتبع السبب دون حكمة السبب وإنما الحكمة ثمرة ، وليست بعلة فلا يجوز أن يقال جعل القتل سببا للقصاص للزجر والردع فينبغي أن يجب القصاص على شهود القصاص لمسيس الحاجة إلى الزجر ، وإن لم يتحقق القتل وهذا فاسد ، والبرهان القاطع على أن هذا الحكم شرعي أعني نصب الأسباب لإيجاب الأحكام فيمكن أن تعقل علته ويمكن أن يتعدى إلى سبب آخر ، فإن اعترفوا بإمكان معرفة العلة وإمكان تعديته ثم توقفوا عن التعدية كانوا متحكمين بالفرق بين حكم وحكم ، كمن يقول : يجري القياس في حكم الضمان لا في القصاص وفي البيع لا في النكاح ; وإن ادعوا الإحالة فمن أين عرفوا استحالته ؟ أبضرورة أو نظر ؟ ولا بد من بيانه ، كيف ونحن نبين إمكانه بالأمثلة ؟ فإن قيل : الإمكان مسلم في العقل لكنه غير واقع ; لأنه لا يلفى للأسباب علة مستقيمة تتعدى فنقول : الآن قد ارتفع النزاع [ ص: 330 ] الأصولي إذ لا ذاهب إلى تجويز القياس حيث لا تعقل العلة أو لا تتعدى ، وهم قد ساعدوا على جواز القياس حيث أمكن معرفة العلة وتعديتها فارتفع الخلاف .
الجواب الثاني : هو أنا نذكر إمكان القياس في الأسباب على منهجين :
المنهج الأول : ما لقبناه بتنقيح مناط الحكم فتقول : قياسنا اللائط والنباش على الزاني والسارق مع الاعتراف بخروج النباش واللائط عن اسم الزاني والسارق - كقياسكم الأكل على الجماع في كفارة الفطر مع أن الأكل لا يسمى وقاعا ، وقد قال الأعرابي : واقعت في نهار رمضان فإن قيل : ليس هذا قياسا فإنا نعرف بالبحث أن الكفارة ليست كفارة الجماع بل كفارة الإفطار .
قلنا : وكذلك نقول : ليس الحد حد الزنا بل حد إيلاج الفرج في الفرج المحرم قطعا المشتهى طبعا ، والقطع قطع أخذ مال محرز لا شبهة للآخذ فيه .
فإن قيل : إنما القياس أن يقال علق الحكم بالزنا لعلة كذا ، وهي موجودة في غير الزنا ، وعلقت الكفارة بالوقاع لعلة كذا ، وهي موجودة في الأكل ، كما يقال أثبت التحريم في الخمر لعلة الشدة ، وهي موجودة في النبيذ ، ونحن في الكفارة نبين أنه لم يثبت الحكم للجماع ولم يتعلق به فنتعرف محل الحكم الوارد شرعا أنه أين ورد وكيف ورد ، وليس هذا قياسا ، فإن استمر لكم مثل هذا في اللائط والنباش فنحن لا ننازع فيه .
قلنا : فهذا الطريق جار لنا في اللائط والنباش بلا فرق ، وهو نوع إلحاق لغير المنصوص بالمنصوص بفهم العلة التي هي مناط الحكم فيرجع النزاع إلى الاسم .
المنهج الثاني : هو أنا نقول : إذا انفتح باب المنهج الأول تعدينا إلى إيقاع الحكم والتعليل بها ، فإنا لسنا نعني بالحكمة إلا المصلحة المخيلة المناسبة ، كقولنا في قوله عليه السلام : { لا يقض القاضي وهو غضبان } إنه إنما جعل الغضب سبب المنع ; لأنه يدهش العقل ويمنع من استيفاء الفكر ، وذلك موجود في الجوع المفرط والعطش المفرط والألم المبرح ، فنقيسه عليه ; وكقولنا : إن الصبي يولى عليه لحكمة وهي عجزه عن النظر لنفسه ، فليس الصبا سبب الولاية لذاته بل لهذه الحكمة ، فننصب الجنون سببا قياسا على الصغر ; والدليل على جواز مثل ذلك اتفاق عمر رضي الله عنهما على جواز قتل الجماعة بالواحد ، والشرع إنما أوجب القتل على القاتل والشريك ليس بقاتل على الكمال ، لكنهم قالوا : إنما اقتص من القاتل لأجل الزجر وعصمة الدماء ، وهذا المعنى يقتضي إلحاق المشارك بالمنفرد ونزيد على هذا القياس ، ونقول : هذه الحكمة جريانها في الأطراف كجريانها في النفوس ، فيصان الطرف في القصاص عن المشارك كما يصان عن المنفرد وكذلك نقول : يجب القصاص بالجارح لحكمة الزجر وعصمة الدماء ، فالمثقل في معنى الجارح بالإضافة إلى هذه العلة . وعلي
فهذه تعليلات معقولة في هذه الأسباب لا فرق بينها وبين تعليل تحريم الخمر بالشدة وتعليل ولاية الصغر بالعجز ومنع الحكم بالغضب فإن قيل : المانع منه أن الزجر حكمة ، وهي ثمرة وإنما تحصل بعد القصاص ، وتتأخر عنه ، فكيف تكون علة وجوب القصاص ؟ بل علة وجوب القصاص القتل قلنا مسلم أن علة وجوب القصاص القتل ، لكن علة كون القتل علة للقصاص الحاجة إلى الزجر ، والحاجة إلى الزجر هي العلة دون نفس الزجر ، والحاجة سابقة ، وحصول الزجر هو المتأخر ; إذ يقال : خرج الأمير عن البلد للقاء زيد ولقاء زيد يقع بعد خروجه ، لكن تكون [ ص: 331 ] الحاجة إلى اللقاء علة باعثة على الخروج سابقة عليه وإنما المتأخر نفس اللقاء ، فكذلك الحاجة إلى عصمة الدماء هي الباعثة للشرع على جعل القتل سببا للقصاص ، والشريك في هذا المعنى يساوي المنفرد والمثقل يساوي الجارح فألحق به قياسا .