[ ص: 370 ] مسألة [ المباح هل هو مأمور به ] ؟ خلاف ينبني على أن المباح هل هو مأمور به ؟ فعلى الأول هو مأمور به بخلاف الثاني والمختار : أنه ليس مأمورا به من حيث هو خلافا الأمر حقيقة في ماذا ؟ هل هو نفي الحرج عن الفعل أو حقيقة في الوجوب أو في الندب أو في القدر المشترك بينهما حيث قال : كل فعل يوصف بأنه مباح باعتبار ذاته ، فهو واجب باعتبار أنه ترك به الحرام . وحكاه للكعبي ابن الصباغ عن أبي بكر الدقاق ; لأنه يكون بفعله مطيعا بناء على قوله : إن المباح حسن ، وصرح القاضي عن في " مختصر التقريب " بأن المباح مأمور به دون الأمر بالندب ، والندب دون الأمر بالإيجاب . الكعبي
قال القاضي : وهو ، وإن أطلق الأمر على المباح فلا يسمى المباح واجبا ، ولا الإباحة إيجابا ، وتبعه في هذا الغزالي في " المستصفى " وابن القشيري في أصوله " وعلى هذا فلا يكون مفاجئا بإنكار المباح [ ص: 371 ] وهو قضية استدلاله . ونقل الإمام عنه في " البرهان " الكعبي وإلكيا الهراسي : أنه باح بإنكار المباح في الشريعة ، وقال : هو واجب ، وكذا نقله ابن برهان في " الوجيز " و " الأوسط " والآمدي وغيرهم والأليق به ما ذكره القاضي ، وكذلك نقله ، ونسبه إلى القاضي عبد الوهاب معتزلة بغداد ، فلم ينفرد به إذن كما قال بعضهم ، فقد قال به أبو الفرج من المالكية : حكاه عنه الباجي ، ثم قال : إن كان مرادهم بكون المباح مأمورا به أنه مأذون في فعله وتركه ، فالخلاف في العبارة ، وإن أرادوا أن الإباحة للفعل اقتضاء له على جهة الإيجاب أو الندب وأن فعل المباح خير من تركه فهو باطل .
وقال الإبياري : ذهب إلى أنه لا مباح في الشريعة ، وله مأخذان . أحدهما : وهو الصحيح عنده أن المباح مأمور به ولكنه دون الندب ، كما أن المندوب مأمور به ولكن دون الواجب ، وهذا بناه على أن المباح حسن ، ويحسن أن يطلبه الطالب لحسنه ، وهذا هو الذي اعتمده في الفتوى ، وهو غير معقول ، فإن هذا المطلوب إما أن يترجح فعله على تركه أو لا : فإن لم يترجح فهو المباح بعينه ، وإن ترجح فإن لحق الذم على تركه ; فهو الواجب ، وإلا فهو المندوب ، ومن تخيل واسطة فلا عقل له . انتهى . [ ص: 372 ] الكعبي
وألزم إمام الحرمين أصحابنا المصير إلى مقالة من قولهم : النهي عن الشيء أمر بأحد أضداده من حيث إن الزنى لما كان منهيا عنه فإن القواطع عنه بالاشتغال لا تكاد تنحصر ، ولكن مع هذا كون حكمها عند الكعبي أو أحدها واجبا على المكلف التبس به ليكون قاطعا له عن الزنى ، ويخير في الأشغال القاطعة ، فما اختار أن يتلبس به منها تعين وجوبه كما يقول أصحابنا : إن النهي عن الشيء الذي له أضداد كثيرة أمر بأحد أضداده التي يكون التلبس بها يقطعه عن ذلك المنهي عنه ، ويكون مخيرا في التلبس بأيهما شاء ويجري مجرى التخيير في كفارة اليمين . والحق : أن مقصود الشارع بخطاب الإباحة إنما هو ذاته من غير اعتبار آخر ، فأما من جهة أنه شاغل عن المعاصي فليس هذا بمقصود الشرع ، ولا هو المطلوب من المكلف ، وما صوره الكعبي من كون ذلك ذريعة ووسيلة فلا ننكره ، ولكن المنكر قصد الشارع إليه ، ولإجماع المسلمين على أن الإباحة حكم شرعي ، وأنه نقيض الواجب ، وكونها وصلة لا يغلب حكمها المقصود المنصوص عليه شرعا . الكعبي
وقال إلكيا الطبري : مذهب يتجه على القول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده ، ولا طريق إلى الجمع بين ذلك المذهب وخلاف الكعبي . ونحن نقول : إن الواجب ما تعلق به خطاب مقصود ، والإباحة مقصودة في الإباحات ، ولم يشرع للنهي عن المحظورات ، وقول القائل : " لا تزن ولا تسرق " لم يطلق له الرواح والمجيء من غير خطور النهي عن السرقة . وليس الوجوب وصفا راجعا إلى العين حتى يقال : لا أثر لقصد المخاطب فيه ، ولعل الكعبي يعتقد الوجوب وصفا راجعا إلى العين كما قالوا في الحسن والقبح ، أو يخالف في العبارة . [ ص: 373 ] قال : وبالجملة فالخلاف في هذه المسألة يرجع إلى عبارة " إذ لا تتعلق به فائدة شرعية ولا عقلية " . الكعبي
نعم قد يتعلق به فوائد شرعية ، فإن الناوي للصوم لا يقصد الإمساك ليلا ، ولا ينوي بصومه تقربا ، وقد يقال ذلك ; لأن الواجب منه مجهول لا يدرى مقداره فيقال : المجهول كيف يكون واجبا ولا إمكان فيه ؟ والمخالف فيه يقول : لا جرم هذا النوع وآخر جزء من الرأس لا يتصفان بالوجوب ; لأن الواجب منهما لا يتبين فلا يندرج تحت اختيار العبد فتبقى تسمية الواجب من هذه الجهة ، وإلا فما علم الحكيم أنه لا يتأتى أداء الواجب إلا به يجعله واجبا . انتهى .
وقال ابن برهان في " الأوسط " : بنى مذهبه على أصل إذا سلم له فالحق ما قاله ، وهو أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده ، ولا مخلص من مذهبه إلا بإنكار هذا الأصل . انتهى . وكذا قال الكعبي الآمدي : احتج وابن الحاجب بأن فعل المباح ترك الحرام ; لأنه ما من مباح إلا وهو ترك لمحظور . وترك الحرام واجب ، فيلزم أن يكون فعل المباح واجبا من جهة وقوعه تركا لمحظور ، وأجيب عنه بأمرين . أحدهما : أنا لا نسلم أنه يلزم من فعله ترك الحرام لجواز تركه بواجب أو مندوب ، فلا يكون تركا للحرام بل يحصل به تركه ، ولا يتعين المباح الذي به يترك الحرام . قال الكعبي : وفيه إقرار بأن بعض المباح واجب . [ ص: 374 ] ابن الحاجب
قال الآمدي : هذا الجواب صادر ممن لم يعلم كلامه فإنه إذا ثبت أن ترك الحرام واجب ، وأنه لا يتم بدون التلبس بضده من أضداده ، وقد تقرر أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فالتلبس بضد من أضداده واجب . والثاني أنه يلزم إذا أنه حرام . قال ترك واجبا مضيقا كإنقاذ أعمى من بئر واشتغل بالصلاة : وهو يلتزمه . قال : ولا مخلص عنه إلا بأن ابن الحاجب فليس بواجب ، ولعل هذا هو الذي دعاه إلى ذلك في مسألة مقدمة الواجب . واعلم أن هذا السؤال استصعبه المتأخرون ، وزعموا أن كلام ما لا يتم الواجب إلا به من عقلي أو عادي صحيح حتى قال الكعبي الآمدي : عسى أن يكون عند غيري حله .
ونحن نقول : قوله إن الحرام إذا ترك به حرام آخر يكون واجبا من جهة أخرى يقال عليه : إن التفصيل بالجهتين إنما هو في العقل دون الخارج ، فليس لنا في الخارج فعل واحد يكون واجبا حراما ; لاستحالة تقوم الماهية بفصلين متنافيين ، وهما فصل الوجوب وفصل الحرمة ، وكذلك أيضا يقال على قوله : إن المباح واجب لاستحالة اجتماع الوجوب والإباحة في الشيء الواحد ، وقد علم بالبديهة امتناع تقويم الماهية بفصلين أو فصول متعاندة ، ومن ثم امتنع أن يكون للشيء مميزان ذاتيان بخلاف المميزين العرضيين الخاصين واللازمين . وأيضا نقول : قوله " فعل " المباح ترك الحرام . قلنا : تركه له بخصوصه أو ترك له مع غيره ، والأول يلزم منه كون الفعل واجبا ، وأما [ ص: 375 ] الثاني فلا نسلم ، وسند المنع أن التلبس بالفعل المعين ترك لجميع الأفعال الواجبة والمندوبة والمحرمة والمكروهة والمباحة غير الفعل المتلبس به ، وترك الجمع المذكور لا يتعين به ضد معين عملا بترك الصلاة على الكافر . فإنه لم يتعين من مفهومه وجوب الصلاة على المسلم ، ثم نقول : ما ذكرتم ، وإن دل على وجوبه .
قلنا : ما يدل على إباحته من وجوه . أحدها : أن فعل المباح مستلزم لترك الواجب الذي ليس بمضيق ، ولترك الحرام ، وإذا تعارضت اللوازم تساقطت فيبقى المباح على إباحته . الثاني : أن فعل المباح مستلزم لتعارض اللزوم الذي استلزمه لوازم الأحكام الخمسة ، ومتى تعارضت اللوازم تساقطت . الثالث : أنا لو فرضنا جميع الأفعال دائرة أخذت الأفعال المباحة خمسها . فإذا حصل الفعل المتلبس به فهو مركز الدائرة ، وإذا كان مثلا مباحا بالذات الذي أقر به حصل للفعل المذكور نسبة إلى كل خمس من أجزاء الدائرة ، والفرض أنه مباح فتساقطت النسب الخمس ، وتبقى الإباحة الذاتية . الثاني : من أدلة الدائرة إذا تلبس المتلبس حصلت له الإباحة بالذات وبالنسبة حصل منه الوجوب ناشئا عن النسبة ، وكل ما كان فيه أمران يقتضيان حكمين عارضهما أمر مساو لأحدهما يقتضي نفي ذلك الحكم ، فإنه مرجح وقوع نقيض الأمرين ، فيرجح القول بإباحة الفعل المذكور . الثالث : أن تقول : هذا الفعل فيه إباحة ذاتية ، وإباحة نسبية ، وفيه وجوب نسبي معارض للإباحة فيتساقطان وتبقى الإباحة الذاتية . الرابع : أن تقول : الإباحة النسبية ترجح بانفرادها على الوجوب [ ص: 376 ] النسبي ; لأن الإباحة النسبية متوقفة على النسبة المذكورة والوجوب يتوقف على ترك الحرام ، والحرام متوقف على النسبة المذكورة فترجح الإباحة ، وقد رد مذهب الكعبي أيضا باستلزام كون المندوب واجبا ، إذ يترك به الحرام ، وكذا سائر الأقسام مع نقائضها ، ولا يقوله عاقل ; ولأنه يلزم أن كل انتقال عن تحريم من قيام أو قعود أو نوم أن يكون واجبا ، وهو خرق الإجماع ، ويلزم فيما إذا اشتغل عن القتل بالزنى أن يكون واجبا ، فيجمع بين النقيضين ، وهو محال ; ولأنه مسبوق بإجماع الأمة ، فمن سبق بالإجماع لا يلتفت إليه ، وقال بعضهم : المباح أحد أضداد المحرم ، والتلبس بأحدها واجب ، ويتعين بفعل المكلف ، فيصح وصفه بالوجوب ، كالواجب المخير ، وهو قوي الإشكال على مذهب الكعبي المعتزلة الواصفين كل واحد من التخيير بالوجوب ، لا على مذهب من يقول : الواجب المسمى فإنه لا يلزمه وصف أحد المباحات على التعبير بالوجوب .