يجوز تعلق العلم بالشيء في الجملة ، ثم اختلفوا هل يقارن العلم بالجملة الجهل بالتفصيل ؟ فرآه القاضي مقارنا له ، ولم يره الشيخ وهو الأصح ; لأنا نعلم كون هذا العرض عرضا ، ونجهل كونه سوادا . وتارة يعلم كونه عرضا ونعلم كونه سوادا ، فليس من ضرورة العلم بالوصف المتقدم الجهل بالوصف الحاضر . أبو الحسن الأشعري
قال المازري : ومن هذا يتبين فساد ما أطلقه إمام الحرمين أن الله سبحانه يسترسل علمه على ما لا يتناهى من غير تعلق بتفاصيل آحاده . قال : وددت لو محوته بدمي ، وفي نسخة : بماء عيني ، وكذا قال غيره . وظنوا أن الإمام يوافق الفلاسفة في نفي العلم بالجزئيات ، وهذا سوء فهم عن الرجل ، وليس ذلك مراده ويتحاشى عنه ، بل مراده أن العلم هل يتعلق بما لا يتناهى تعلقا إجماليا أو تفصيليا ؟ . فهو يقول : كما أن ما لا يتناهى لا يدخل في الوجود ، كذلك لا يتعلق به العلم التفصيلي ، وهما سواء في الاستحالة ; لأنه لو دخل في العلم لكان إما أن يبقى من المعلومات شيء أم لا ، فإن لم يبق شيء فقد تناهى ، والفرض خلافه . وإن بقي شيء فما [ ص: 96 ] حصلت الإحاطة . وهذا الذي أراده رضي الله عنه . وهو شنع عليه فيه أيضا لكنه دون الأول ، فإن منكر العلم بالجزئيات يقول : لا يعلم شيئا منها أصلا لا ما دخل في الوجود ولا ما لم يدخل ، وأما هذا الذي أراده الإمام فهو أن العلم لا يتعلق بما لم يدخل في الوجود ; لعدم تناهيه . أما ما دخل الوجود فإنه يعلم وهو قريب من مذهب جهم وهشام غير أنهما يقولان بعلوم حادثة ، والإمام يقول بعلم واحد قديم .
وقد صرح في البرهان " أيضا بموافقة أهل الحق ، فقال في النسخ في الكلام مع اليهود : وإن زعموا أن النسخ يمتنع من جهة إفضائه إلى البداء ، والقديم متعال عنه فلا حقيقة لهذا ، فإن البداء إذا أريد به تبيين ما لم يكن مبينا في علمه فليس هذا من شرط النسخ ، فإن الرب تعالى كان عالما في أزله بتفاصيل ما لم يقع فيما لا يزال . انتهى . وفي هذا الكلام أخذ بيده وهو متأخر عن الذي قاله في صدر الكتاب ، وحكى الإمام فخر الدين عن والده الإمام ضياء الدين عن [ ص: 97 ] عن أبي القاسم الأنصاري إمام الحرمين أنه كان يقول : لله تعالى معلومات لا نهاية لها ، وله في كل واحد من تلك المعلومات معلومات أخرى لا نهاية لها على البدل ، وهو تعالى عالم بتلك الأحوال على التفصيل ، وإنما أوضحت ذلك لبيان أن الإمام لم يخرج عن عقيدة أهل السنة ، وأن تلك العبارة ليست على ظاهرها ، ولا متعلق فيها عليه ، وهو من جليل ما يستفاد .