الثاني في : حده
قال الرماني : هو اقتطاع فرع من أصل يدور في تصاريف الأصل قال ابن الخشاب . وهذا الحد صحيح وهو عام لكل اشتقاق صناعي وغير صناعي . [ ص: 314 ]
وقال الرماني في موضع آخر : هو الإنشاء عن الأصل فرعا يدل عليه ، وهو أيضا ما يكون منه النحت والتغيير لإخراج الأصل بالتأمل كأنك تشق الشيء ليخرج منه الأصل ، وكأن الأصل مدفون فيه ، فأنت تشقه لتخرجه منه .
قال ابن الخشاب وظاهره : أنك استخرجت الأصل من الفرع ، وإنما الحق أنه رد الفرع إلى أصله بمعنى جمعهما ، وهو خاص في أصل الوضع بالأصل .
وقال الميداني : أن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب ، فترد أحدهما إلى الآخر .
وقال صاحب الكشاف : أن ينتظم من الصفتين فصاعدا معنى واحد ، وهو غير مانع فإن الضارب والمضروب قد انتظما في معنى واحد وهو الضرب مع أنه لا اشتقاق فيهما ، وكذلك ينتظم الأفعال كلها في معنى واحد ، وهو معنى المصدر مع أن بعضها ليس مشتقا من بعض ، لكن الظاهر أن مراده أن الاشتقاق يكون من ذلك المعنى الذي ينتظمها ، وهو الضرب مثلا . والتحقيق : أن الاشتقاق يحد تارة باعتبار العلم ، وتارة باعتبار العمل . ففي الأول إذا أردت تقرير أن الكلمة مم اشتقت ؟ فإنك تردها إلى آخر لتعرف أنها مشتقة ، والثاني إذا أردت أن تشتق الكلمة من شيء فإنك تأخذها منه ، فقد جعلتها مشتقة منه ، فالتفاوت إنما يحصل من الرد والأخذ ، فهذا قبل الاشتقاق ، والأول بعده . [ ص: 315 ] والمختار على الأول : أنه رد لفظ إلى آخر أبسط معنى منه حقيقة أو مجازا لمناسبة بينهما في المعنى والحروف الأصلية كضارب وضرب من ضرب ، فحكمنا باشتقاق ضرب وضارب لأن ضربا أبسط منه ، والبسيط قبل المركب فشمل اللفظ الأسماء والأفعال على المذهبين والحروف .
قال : الاشتقاق كما يقع في الأسماء يقع في الحروف ، فإن " نعم " حرف جواب . وأرى أن نعم ، والنعم ، والنعماء ، والنعيم مشتقة منه وكذلك أنعم صباحا ، لأن الجواب به محبوب للقلوب ، وكذلك سوفت من " سوف " الذي هو حرف تنفيس ، ولوليت إذا قلت له : لولا ، وليليت إذا قلت له : لا لا ، ثم قد يكون المعنى المشتق حقيقة ، كضارب من الضرب ، وقد يكون مجازا على جهة الاتساع نحو ضرب في الغنيمة وغيرها بسهم أي أخذ ، وضارب لفلان بماله ، ومال فلان ضربت أي : نيل ، لأنهم كانوا إذا اقتسموا غنيمة أو غيرها ضربوا عليها بسهام القرعة وهي الأقلام ، ثم اضطرد ذلك في كل من أخذ نصيبا من شيء قد ضرب فيه بسهم ، والمضاربة بالمال مشتقة من الضرب في الأرض وهو السفر ، لأن المضارب يسافر عالما ليطلب الربح ، ثم اطرد ذلك في كل مسافر وإن لم يضارب . وخرج باشتراط المناسبة ما لا يناسبه أصلا ، وبالحروف عما لا يوافقه في الحروف ، بل في المعنى كمنع وحبس فلا يقال : إن أحدهما مشتق من الآخر ، وبالأصلية التناسب في الزيادة كدخل ، فإنه مشتق من الدخول مع أنه غير موافق مصدره في الواو ، لأنها زائدة ، والمناسبة في المعنى ما يوافق في اللفظ دون المعنى ، كضرب بمعنى سافر ، لا يكون مشتقا من الضرب بمعنى القتل . [ ص: 316 ] وشرط بعضهم الترتيب في الحروف أي أن تبقى حروف الأصل في الفرع على ترتيبها في الأصل ، وترجع تفاريع المادة الواحدة منه إلى معنى مشترك في الجملة ، كضرب من الضرب ، وكما دل قولنا إلى آخر على تغاير اللفظين كذلك قولنا : لمناسبة بينهما في المعنى يدل على تغاير المعنيين ، إذ الشيء لا يناسب نفسه ، وحينئذ فلا يرد المعدول لأنه لا مناسبة بين المعدول والمعدول عنه في المعنى . ابن جني