مسألة [ ] نسخ السنة بالقرآن
وأما نسخ السنة بالقرآن ، فمن جوز نسخ القرآن بالسنة فأولى أن يجوز هذا وأما المانعون هناك فاختلفوا . فيها قولان : حكاهما وللشافعي ، القاضي أبو الطيب ، والشيخ أبو إسحاق وسليم ، وإمام الحرمين ، وصححوا الجواز . وقال ابن برهان : هو قول المعظم . وقال سليم : هو قول عامة المتكلمين والفقهاء . وقال ابن السمعاني : إنه الأولى بالحق ، وجزم به الصيرفي هنا مع منعه هناك . وظاهر كلام تصحيحه ، لكن حكى أبي إسحاق المروزي الرافعي في باب الهدنة أن المنع منسوب إلى أكثر الأصحاب . وقال الماوردي في " الحاوي " في باب القضاء : ظاهر مذهبنا وجهان [ ص: 273 ] أو قولان . التردد منه . وقال : الذي نص عليه في القديم والجديد أنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن . كالعكس . وقال الشافعي ابن سريج : يجوز بخلاف ذلك لأن القرآن آكد من السنة ، وخرجوا قولا ثانيا من كلام تأوله في " الرسالة " . انتهى . [ مذهب للشافعي في نسخ السنة بالقرآن ] الشافعي
وقال في كتابه : نص أبو إسحاق المروزي في " الرسالة القديمة والجديدة " على أن السنة لا تنسخ إلا السنة ، وأن الكتاب لا ينسخ السنة ، ولا العكس . وقال الشافعي ابن السمعاني : ذكر في " الرسالة القديمة والجديدة " ما يدل على أن نسخ السنة لا يجوز ، ولعله صرح بذلك ، ولوح في موضع آخر بما يدل على الجواز ، فخرجه أكثر أصحابنا على قولين ، وأظهرهما من مذهبه أنه لا يجوز . والثاني : الجواز ، وهو أولى بالحق انتهى . وقد استعظم الشافعي إلكيا الهراسي القول بالمنع هاهنا أيضا . وقال : توجيهه عسر جدا ، والممكن فيه أن يقال : إنه عليه السلام إذا قال عن اجتهاد ، فلا يجوز أن يرد الكتاب من بعد بخلافه ، لما فيه من تقرير الرسول صلى الله عليه وسلم على الباطل ، وإيهام المخالفة . وقال في " تعليقه " : قد صح عن أنه قال في " رسالتيه " جميعا : إن ذلك غير جائز ، وعلى ذلك من هفواته ، وهفوات الكبار على أقدارهم ، ومن عد خطؤه عظم قدره . وقد كان الشافعي عبد الجبار بن أحمد كثيرا ما ينصر مذهب في الأصول والفروع ، فلما وصل إلى هذا الموضع ، قال : هذا الرجل كبير ، لكن الحق أكبر منه ، ثم نصر هو الحق . قال الشافعي إلكيا : والمتغالون في محبة لما رأوا أن هذا القول لا يليق [ ص: 274 ] به طلبوا له محامل ، فقيل : إنما قال هذا بناء على أصل ، وهو جواز الاجتهاد للرسول ، فإذا جاز له الاجتهاد في . بنص الكتاب وحكم ثم أراد الرسول نسخه باجتهاده ، لا يجوز له ، لأن الاجتهاد لا يؤدي إلى بيان أمد العبادة ، ولا يهدي إلى مقدار وقتها . وهذا باطل ، لأن الشافعي منع من النسخ بالمتواتر ، وقضية هذا الكلام تجويز نسخ القرآن للسنة التي لا توجد ، وبيانه أن ما كان بيانا في كتاب الله بالنص كان ثبوته عنه باجتهاد الرسول ، لأن الاجتهاد استخراج من جهة الله ، وهو لا يجوز مع وجود الكتاب . فكأنه يقول : الشافعي يمنع من نسخ الكتاب لسنة لا يتصور وجودها . انتهى كلامه . الشافعي
قلت : وعبارة في " الرسالة " بعد الكلام السابق : وهكذا سنة رسول الله لا ينسخها إلا سنة لرسوله ، ولو أحدث الله لرسوله في أمر سن فيه غير ما سن رسول الله [ لسن فيما أحدث الله ] إليه حتى يبين للناس أن له سنة ناسخة للتي قبلها مما يخالفها ، وهذا مذكور في سنته صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : هل تنسخ السنة بالقرآن ؟ قيل : لو نسخت السنة بالقرآن ، كان للنبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة تبين أن السنة الأولى منسوخة بسنته الأخيرة ، حتى يقيم الحجة على الناس بأن الشيء ينسخ بمثله . انتهى . وفيه كذلك قوله في " الرسالة " في موضع آخر : وقد ورد حديث الشافعي في تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم الخندق ، وأن ذلك قبل أن ينزل الله الآية التي ذكر فيها صلاة الخوف ، ثم ذكر أبي سعيد صلاة النبي بذات الرقاع ، ثم قال : وفي هذا دلالة على ما وصفت قبل هذا في هذا الكتاب ، من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سن سنة ، [ فأحدث الله إليه [ ص: 275 ] في تلك السنة نسخها أو مخرجا إلى سعة ] منها سن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تقوم الحجة على الناس بها ، حتى [ يكونوا ] إنما صاروا من سنته إلى سنته التي بعدها ، فنسخ الله تأخير الصلاة عن وقتها في الخوف إلى أن يصلوها كما أنزل الله ، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتها ، ونسخ صلى الله عليه وسلم [ سنته ] في تأخيرها بفرض الله في كتابه ثم سنته صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتها كما وصفت . انتهى . الشافعي
ومن صدر هذا الكلام أخذ من قبل عن أن السنة لا تنسخ بالكتاب ، ولو تأمل عقب كلامه بان له غلط هذا الفهم . وإنما مراد الشافعي أن الرسول إذا سن سنة ثم أنزل الله في كتابه ما ينسخ ذلك الحكم ، فلا بد أن يسن النبي صلى الله عليه وسلم سنة أخرى موافقة للكتاب تنسخ سنته الأولى ، لتقوم الحجة على الناس في كل حكم بالكتاب والسنة جميعا ، ولا تكون سنة منفردة تخالف الكتاب ، وقوله : ولو أحدث إلى آخره ، صريح في ذلك . وكذلك ما بعده . والحاصل أن الشافعي يشترط لوقوع نسخ السنة بالقرآن سنة معاضدة للكتاب ناسخة ، فكأنه يقول : لا تنسخ السنة إلا بالكتاب والسنة معا ، لتقوم الحجة على الناس بالأمرين معا ، ولئلا يتوهم متوهم انفراد أحدهما من الآخر ، فإن الكل من الله . والأصوليون لم يقفوا على مراد الشافعي في ذلك ، وقد سبق أن هذا أدب عظيم من الشافعي وليس مراده إلا ما ذكرناه . فإن قيل : يرد عليه الكتاب المنفرد بلا سنة ، والسنة المنفردة بلا كتاب . قيل : الحجة في ذلك قائمة بالكتاب والسنة جميعا . الشافعي
أما الأول فلتبليغ النبي صلى الله عليه وسلم ، والعلم باتباعه له ، ما تواتر عنه من الأمر بطاعة الله . وأما الثاني فلقوله : { وما آتاكم الرسول } ، فاجتمع في كل مسألة دليلان . فإن قيل : فهذا حاصل فيما إذا كان أحدهما ناسخا للآخر . قيل : [ ص: 276 ] نعم ، ولكنا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالله ، وأكثر أدبا ومسارعة إلى ما يؤمر به ، ولا يبقى مكان إزالة الشبهة عن الناس ، وإزالة عذرهم ، وذلك يقتضي أنه لا يبقى له سنة تخالف الكتاب إلا بين أنها منسوخة بيانا صريحا بقوله أو فعله ، حتى لا يتعلق من في قلبه ريب بأحدهما ويترك الآخر . وهذا من محاسن الذي لم يسبقه غيره إلى الإفصاح به . وقد وقع على هذا المعنى ونبه عليه جماعة من أئمتنا ، منهم الشافعي في كتابه " الناسخ " . أبو إسحاق المروزي
فقال : وقد نقل كلام في " الرسالتين " ، فذكر الكلام السابق ثم قال : وذكر الشافعي في " الرسالة القديمة " منع نسخ القرآن بالسنة ، ثم قال : وكذلك القرآن لا ينسخ السنة ، ولو أحدث الله عز وجل لنبيه في سنة سنها غير ما سن الرسول لبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا غير السنة الأولى ، حتى تنسخ سنته الأخيرة سنته الأولى . وقال أيضا في القديمة في مناظرة بينه وبين الشافعي حكاية عن محمد أنه قال : وإذا كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بمعنى ما أراد الله عز وجل ، ولا يتأول على سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يزعم أن الكتاب ينسخ بسنة ، ولكن السنة تدل على معنى الكتاب . فقال محمد : إذا أصبت . وهذا قولنا ، فكيف لا نقول باليمين مع الشاهد . الشافعي
قال : فقد نص أبو إسحاق في " الرسالة القديمة والجديدة " على أن سنة الرسول لا تنسخ إلا بسنة ، وأن الكتاب لا ينسخ السنة ، ولا السنة تنسخ الكتاب ، وأن كتاب الله فيما للنبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة إنما يأتي أمر ثان ينسخ سنته ، حتى يكون هو المتولي لنسخه ، وسنته أن يكون ذلك ، لئلا يختلط البيان بالنسخ ، فلا يوجد لرسول الله سنة ظاهر القرآن خلافها ، [ ص: 277 ] إلا جعل القرآن ناسخا ، أو جعلت السنة إذا كان ظاهرها خلاف القرآن ناسخة للقرآن ، فيكون ذلك ذريعة إلى أن يخرج أكثر السنن من أيدينا . وقد قال الشافعي في مواضع ما يوجب أن القرآن ينسخ السنة ، إلا أنه في أيدينا وجب استعمالها على ما يمكن منهما ، والذي يمكن تخصيص العام بالنص بعلمنا ذلك ، ثم سواء تقدمت السنة أو تأخرت ، لأنها إن تقدمت فالكلام العام مثبت عليها ، وهي بيان ، وإن تأخرت فهي تفسيره ، وهي بيان . الشافعي
ومن جعلها منسوخة فإنما يريد منا أن نترك المفسر بالمجمل ، والنص بالمجمل ، ومن أراد ذلك منا قلنا له : بل بيان كما أمر الله نبيه بالبيان به . فلا يجوز ترك النص بما يحتمل المعاني . قال : وهذا جملة مما قاله في هذا الباب ، وما قاله الشافعي أبو العباس بن سريج فيه . ا هـ . ومنهم في كتابه ، فقال : ومعنى قول أبو بكر الصيرفي : إن السنة لا تنسخ القرآن صحيح على الإطلاق لا يأتي برفع حكم القرآن أبدا ، ومعنى قوله : لا ينسخ القرآن السنة إلا أحدث النبي صلى الله عليه وسلم سنة تبين أن سنته الأولى قد أزيلت بهذه الثانية كلام صحيح ، أحال أن تكون السنة تأتي برفع القرآن الثابت على ما بينا من قيام الأدلة ، وأجاز أن يأتي القرآن برفع السنة ، بل قد وجده ، ثم قرنه بأنه لا بد من سنة معه تبين أنه أزال الحكم ، لئلا يجوز أن يجعل عموم القرآن مزيلا لما بينه من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ، لوهم أن يتوهم أن قوله : فاغسلوا أرجلكم مزيل لحكم مسح الخفين ، ومثله قوله : { الشافعي قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } مزيل لتحريم كل ذي ناب من السباع ونحوه .
وهكذا قال عند ذكره صلاة الخوف ، وحكي عن الشافعي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وذلك قبل أن ينزل الله : { أبي سعيد فرجالا أو ركبانا } فقال : وهذا من الذي قلت لك : إن الله إذا أحدث لرسوله في شيء سنة عليه السلام ، فلا بد من سنة تبين أن سنته [ ص: 278 ] الأولى منسوخة بسنته الأخيرة ، يعني أن الله عز وجل رفع الحكم بالآية ففعل هذه السنة ، لأن الرافع هو القرآن ، والسنة هي المثبتة أن القرآن قد رفع حكم ما سنه ، وبيانا للأمة ، ألا ترى النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أن الحكم قد زال بما أمر ، وصار هو الفرض بفعله امتثالا للمفروض عليه وعلى أمته ، وبيانا للأمة أنه قد أزيل ما سنه ، فيعلم بسنته الثانية أن الله قد أزال سنته الأولى لما وصفت من احتمال ترتيب الآية على السنة ، لئلا يشكل ذلك في الترتيب والفرض . وقد نص على ذلك فقال فيما عقده النبي صلى الله عليه وسلم الشافعي لقريش بنقض الله الصلح من رد المؤمنات : فهذا يدل على أن القرآن هو الذي رفع السنة . انتهى كلامه .
وقال الغزالي في " المنخول " : أما ورود آية على مناقضة ما تضمنه الخبر فجائز بالاتفاق ، ولكن الفقهاء قالوا : النبي صلى الله عليه وسلم هو الناسخ لخبره دون الآية . قال : وهذا كلام لا فائدة فيه ، ولا استحالة في كون الآية ناسخة للخبر وعزي إلى المصير إلى استحالته ، ولعله عنى في المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينسخ ، ولا يبين ، وإنما الناسخ الله . ا هـ . وقال الشافعي القاضي في " التقريب " : كان يقول بتجويز ورود القرآن بلفظ ينفي الحكم الثابت بالسنة ، غير أنه لا يقع النسخ به حتى يحدث النبي صلى الله عليه وسلم مع القرآن سنة له أخرى يبين بها انتفاء حكم السنة المتقدمة ، وهذا مما لا وجه له ، لأنه إذا كان القرآن من عند الله ، وكان ظاهره ينفي حكم السنة ، وجب القضاء على رفعه لها ، ولو كان ما هذا حكمه من القرآن لا يكفي في ذلك في رفع حكم السنة لفظ سنة أخرى ينفي حكمها . فإن قيل : قد يلتبس الأمر في ذلك ، فيظن سامع لفظ الآية أنه غير مراد به رفع حكم السنة ؟ قلنا : إذا لم يحتمل اللفظ غير ما يضاد حكم السنة ارتفع التوهم . [ ص: 279 ] الشافعي
وقال : نص أبو إسحاق المروزي في موضع آخر على أن الله ينسخ سنة رسوله ، غير أن قوله لم يختلف في أن الله إذا نسخ ذلك لم يكن بد من أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تبين أن سنته الأولى منسوخة ، إما بالسنة أو بكتاب الله ، لأن المنع من إجازة نسخ الله سنة نبيه لئلا يختلط البيان بالنسخ فتخرج السنن من أيدينا ، فإذا انضم إلى السنة الأولى وإلى القرآن الذي أتى برفعه سنة أخرى تبين أن السنة الأولى منسوخة ، فقد زال ما يخوف من اختلاط البيان بالنسخ ، ولا يبالى بعد ذلك أيهما الناسخ للحكم الأول : الكتاب للسنة ، أو السنة للسنة ، وليس في أيدينا دليل واضح على أنه لا ينسخ الكتاب السنة ، كما أن السنة لا تنسخ القرآن . قال : وحكى الشافعي قولا أبو العباس بن سريج في " الرسالة " أن الله لا ينسخ سنة إلا ومعها سنة له تبين أن سنته الأولى منسوخة ، وإلا خرجت السنن من أيدينا . ثم قال : وهذا الذي احتج به للشافعي بين لمن تدبره ، وذلك أن الله قال لنبيه : { الشافعي لتبين للناس ما نزل إليهم } فإذا كانت هذه الآيات محتملة للخصوص ، ثم جاء عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك ، فهو بيان منه لها ، فإذا جعلت ناسخة له فقد أدى ذلك إلى إبطال الوضع الذي وضع الله له نبيه من الإبانة عن معنى الكتاب .
فإن قيل : إنما هي بيان إذا ثبت أنه قال بعد نزول الآية . قيل : إن قوله والآية إذا جعلنا الناسخ دليلا على أنه الناسخ ، وأن الذي ينافيه منسوخ ، كقوله : { } . تنبيهات كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها
الأول : قسم الصيرفي ما يأتي من القرآن برفع ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم إلى ضربين : [ ص: 280 ]
أحدهما : ما لا يحتمل الموافقة فبالخطاب يعلم رفعه ، كقوله : { قد نرى تقلب وجهك في السماء } الآية . وكصلح الرسول لقريش على أن يرد النساء إليهم ، فأنزل الله : { فلا ترجعوهن إلى الكفار } فهذا يعلم من ظاهر الخطاب أن الحكم قد أزيل ، ويكون فعل النبي صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمر الله .
والثاني : يحتمل الموافقة كآية الوصايا مع الميراث ، فإنه يحتمل أن يجمع الوصية والميراث للوالدين والأقربين ، فلا يثبت النسخ إلا أن تأتي سنة تبين أن الآية رافعة كقوله صلى الله عليه وسلم : { } . قال : ومثل أن عموم آية على سنة ، فلا بد حينئذ من سنة تبين أن السنة الأولى قد أزيل حكمها ببيان السنة الثانية . إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث
الثاني : أن الكلام هنا في الجواز هل هو الشرعي أو العقلي ؟ فيه ما سبق . وقد صرح الماوردي بأن العقلي محل وفاق ، فقال بعدما سبق : ثم اختلف أصحابنا في طريق الجواز والمنع في الشرع مع جوازه في العقل على ثلاثة أوجه : أحدها : لا توجد سنة إلا ولها في كتاب الله أصل كانت فيه بيانا لمجمله ، فإذا ورد الكتاب بنسخها كان نسخا لما في الكتاب من أصلها ، فصار ذلك نسخ الكتاب بالكتاب .
والثاني : يوحي إلى رسوله بما تحققه من أمته ، فإذا أراد نسخ ما سنه الرسول أعلمه به ، حتى يظهر نسخه ، ثم يرد الكتاب بنسخه تأكيدا لنسخ رسوله ، فصار ذلك نسخ السنة بالسنة .
والثالث : نسخ الكتاب بالسنة ، فيكون أمرا من الله لرسوله بالنسخ ، فيكون الله هو الآمر به ، والرسول هو الناسخ ، فصار ذلك نسخ السنة [ ص: 281 ] بالكتاب . الثالث : حكى من الحنفية في كتابه عن بعضهم طريقا آخر في الامتناع ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قد كان يقف في تأويل مجمل الكتاب على ما لا يشركه في الوقوف عليه أحد من أمته . فليست له سنة لا كتاب فيها إلا وقد يحتمل أن يكون لها في الكتاب جملة تدل عليها ، فخص الله رسوله بعلم ذلك ، فلم يثبت أن آية نسخت سنة ، لأن تلك السنة قد تكون مأخوذة من جملة الكتاب وإن خفي علينا علم ذلك بعد . قال أبو بكر الرازي أبو بكر : وهذا يوجب أن لا يكون للنبي صلى الله عليه وسلم سنة أصلا . وأن يكون كل ما بينه فهو بيان لجملة مذكورة في القرآن قد علمها دوننا . قال : وبطلانه معلوم باتفاق الأمة . قلت : قد حكاه في أول الرسالة قولا عن بعض أهل العلم ، ثم حكى الشافعي الرازي عن هذا القائل استقراء أنه لم يرد أنه نسخت عنده سنة إلا وقد وجد لها حكمة من الكتاب ، نحو : ما ادعوه من نسخ استقبال بيت المقدس ، واستحلال الخمر ، وتحريم المباشرة ، والفطر بعد النوم في ليالي الصوم ، فقد يكون استقبال بيت المقدس مأخوذا من قوله : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } وشرب الخمر من قوله : { إثم كبير ومنافع للناس } ومعلوم أن شربها لا يحل وفيه إثم ، ويحرم ما يحل للمفطر { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } أي على الصفة ، قال : وإن ورد ما لم يطلع فيه على ذلك ، فيجوز أن يكون مأخوذا من الكتاب ، وإن خفي علينا علمه . ثم زيف هذه المقالة ، ورد هذا كله . الرازي
الرابع : أشار الدبوسي إلى أن الخلاف في هذه المسألة والتي قبلها نشأ [ ص: 282 ] من الخلاف في أن الزيادة نسخ أو بيان ؟ يرى أنه بيان ، وما ورد مما يوهم النسخ جعله من قسم البيان . وعندنا أن الزيادة نسخ ، فاضطررنا إلى القول بجواز نسخ السنة بالكتاب وبالعكس . وقال فالشافعي ابن المنير في " شرح البرهان " : طريق النظر عندي في هذه المسألة غير ما ذهب إليه المصنفون ، وذلك لأن الناسخ والمنسوخ أمر قد فرغ منه ، وجف به القلم ، فلا تتوقع فيه الزيادة . وينبغي أن يسمع الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة ، فإن لم نجد شيئا من الذي نسخ بالسنة ، ولا العكس ، قطعنا بالواقع ، واستغنينا عن الكلام على الزائد ، لأنه لا يقع أبدا . قال : وها هنا مزلة قدم لا بد من التنبيه عليها ، وذلك أنا قد نجد حكما من السنة منسوخا ، ونجد في الكتاب حكما مضادا لذلك المنسوخ ، فيسبق الوهم إلى أنه الناسخ ، وهذا غير لازم ، لأنا قد نجد في السنة ناسخا ، فلعل الموجود في السنة هو الذي نسخ ، والموجود في الكتاب نزل بعد أن استقر النسخ ، فلا يتعين كون ذلك هو الناسخ ، ثم نتبع ذلك بالأمثلة . .