[ ص: 76 ] باب في ذكر حقيقة الإيمان
قال الله تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما تقدم تفسير هذه الآية في النصيب الأول من هذا الكتاب .
والمراد بها في هذا الموضع : أن عبارة عن تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمر يشجر بين الأمة ، ويختلف فيه الناس ، مع عدم حرج النفس وضيق الصدر ، وتسليمه بصميم القلب ، وذلك عبارة عن اتباع السنة ، وتقديمها على تحكيم كل إنسان ، كائنا من كان ، وأن في خلاف هذا الشأن نفي الإيمان . الإيمان
فمن حكم غيره ، وقلد سواه ، فقد خرج عن دائرة الإيمان ، وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود ، وترجف له الأفئدة - كما سبق الإشارة إليه في موضعه ، فراجعه .
وقال تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [الأنفال : 2]; أي فزعت ، وخضعت ، وخافت ، ورقت; استعظاما له ، وهيبة من جلاله .
والمراد : أن حصول الخوف من الله ، والفزع منه عند ذكره ، هو شأن المؤمنين الكاملي الإيمان ، المخلصين له الدين .
فالحصر باعتبار كمال الإيمان ، لا باعتبار أصله .
والظاهر : أن مقصود الآية : هو إثبات هذه المزية لمن كمل إيمانه من غير تقييد بحال دون حال ، ولا بوقت دون وقت ، ولا بواقعة دون واقعة .
[ ص: 77 ] وعن ، قالت : إنما الوجل في القلب كاحتراق السفعة ، يا أم الدرداء ! أما تجد قشعريرة؟ قال : بلى . قالت : فادع عندها; فإن الدعاء يستجاب عند ذلك . ونحوه عن شهر بن حوشب . عائشة
قال : هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية ، فيقال له : اتق الله : فيجل قلبه . السدي
وعن ، قال فلان : إني لأعلم متى يستجاب لي؟ قالوا : ومن أين لك هذا؟ قال : إذا اقشعر جلدي ، ووجل قلبي ، وفاضت عيناي ، فذلك حين يستجاب لي ، ثابت البناني إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله ; أي : تصديقا ، قاله ، وعن ابن عباس ، قال : خشية . الربيع بن أنس
والمراد بزيادته : انشراح الصدر ، وطمأنينة القلب ، والفلاح الخاطر عند تلاوة الآيات .
وقيل : زيادة العمل; لأن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص .
وفيه نظر; لأن الآيات المتكاثرة ، والأحاديث المتواترة ، ترده وتدفعه ، والآية الشريفة صريحة في زيادة الإيمان .
وعن - رضي الله عنه - يرفعه : أبي هريرة أخرجه الشيخان . «الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أعلاها : شهادة ألا إله إلا الله ، وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان»
وفي هذا أعظم دليل على أن ، وإذا كان كذلك ، كان قابلا للزيادة والنقصان ، وليس بعد بيان الله وبيان رسوله بيان . الإيمان فيه أعلى وأدنى
قال : عن عامة أهل العلم : أن من كانت الدلائل عنده أكثر وأقوى ، كان إيمانه أزيد . الواحدي
قال الكرخي : إن نفس التصديق يقبل القوة ، وهي التي عبر عنها بالزيادة; [ ص: 78 ] للفرق المميز بين يقين الأنبياء وأرباب المكاشفات ، ويقين آحاد الأمة .
ويؤيد ذلك قول - عليه السلام - : لو كشف الغطاء ، [ما] ازددت يقينا . علي
وكذا من قام عليه دليل واحد ، ومن قامت عليه أدلة كثيرة; لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه ، وأثبت لقدمه ، وعليه يحمل ما نقل عن من أنه يقبل الزيادة والنقص . انتهى . الشافعي
وأرجع علي القاري الحنفي هذا الاختلاف إلى النزاع اللفظي ، وقرر الزيادة والنقصان .
وهذا هو الذي عليه جمهور الأعيان من أهل العلم .
وبهذا تحصل أن إيمان المحدثين ، ومتبعي الكتاب والسنة أزيد وأقوى من إيمان المقلدين الفرعيين; لزيادة العلم بالأدلة عندهم ، وفقد الأدلة عن هؤلاء . فإيمان القسم الأول إيمان تحقيق ، وإيمان القسم الآخر إيمان تقليد .