آدم أقوال العلماء في الجنة التي يسكنها
اختلف في هذه الجنة ، هل هي الجنة التي يدخلها المسلمون الموحدون يوم القيامة ، وهي فوق السماء ، أم جنة أخرى كانت على الأرض ؟
واستدل كل طائفة بأدلة من الكتاب والسنة ذكرها الحافظ ابن القيم في «حادي الأرواح» ، ولكل وجه هو موليها .
والذي عليه المحققون من العلماء الراسخين : هو التوقف منه في الجزم بأحد القولين ، والتفويض إلى عالم الغيب والشهادة .
، كأن ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض» موسى - عليه السلام زعم [ ص: 194 ] أنه لو لم يوجد منه هذه الخطيئة ، لكان آدم في الجنة دائما ، وهناك يولد له ، ولكن هبط الناس بهبوطه في الأرض ، وابتلوا بهذه التكليفات ، فلامه على ذلك ، وقال : لم يكن ينبغي لك أن تصدر منك هذه الخطيئة ، مع هذه المرتبة العليا .
، وكانت من الزمرد والياقوت ، مكتوب فيها كتاب «التوراة» ، قيل : كانت ضخامته حمل سبعين بعيرا ، وكانت تتم قراءة جزء من أجزائه في عام كامل فيها تبيان كل شيء من أحكام الدين الكافية لأمته «قال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه ، وأعطاك الألواح» . «وقربك نجيا ، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق ؟ قال موسى : بأربعين عاما»
قال في الترجمة : التوراة قديم ، ولكن كتبها في الألواح أو في غيرها كان في هذه المدة .
والمراد بالعام : عام هذا العالم ، أو العام الذي عند الله ، وهو ألف سنة ، والله أعلم .
آدم : فهل وجدت فيها : وعصى آدم ربه فغوى [طه : 121] ، قال : نعم» ; أي : وجدت فيها ذكر كونك تعصي ربك ، «قال آدم موسى» ; أي : غلب عليه في الحجة . «قال : أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فحج
أقول : انظر في هذه المناظرة التي وقعت بين نبيين من أولي العزم من الرسل ، كيف كانت مختصرة ، مبنية على الفصاحة والبلاغة ، وقوة الحجة ، وصحة الاستدلال ، وحسن المقال ، وقبول الآخر من الأول حجته ، والسكوت على الجواب الحق المستند إلى كتاب الله .
ولو كانت هذه بين المتكلمين من هذه الأمة ، أو بين المتبعين والمقلدين للأئمة ، لما ختمت إلى يوم القيامة ، وإن أتى المستدل بألف دليل من الكتاب والسنة ، ولم يكن للآخر المحجوج دليل واحد منهما . وهذا هو الفرق بين الخواص وغيرهم من الناس .
نعم إذا كان في مقابلة المستدل ، من هو من أهل العلم والإنصاف ، وطالب [ ص: 195 ] الحق ، وباغي الصواب ، فهو يقبل الدليل ، ويسكت عليه ، كما وقع من موسى - عليه السلام .
فإنه لما سمع دليل آدم ، وكان من كتاب الله ، أذعن له ، ولم يقابله برأي منه ، ولا اجتهاد ، ولا قياس فقهي ، ولا خيال فلسفي ، ولا قول من آدمي ، ولا برهان عقلي .
وهكذا شأن العالم بالله ، والشحيح بدينه إذا تليت له آية; أو ذكرت عنده حديثا في مسألة وحكم ، وليس عنده ما يعارضه به من برهان مساو ، أو مقدم عليه ، يذعن له ، ويقبله ، ويترك المكابرة والمجادلة ، وإلا ، فهؤلاء الطوائف من أهل الكلام ، وأهل الرأي ، وأصحاب التقليد ، ومدعي الاجتهاد والتجديد تراهم يردون أدلة الكتاب والسنة ، وإن قبلوها ، يؤولونها على مذاهبهم ، ويعرضون القرآن والحديث على أقوال أئمتهم الذين يقلدونهم ، ولا يعرضون مجتهداتهم عليهما .
وهذا عكس القضية المستوى . وهو السبب الأعظم لغربة الدين ، وذهاب الإسلام من بين المسلمين ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وعندي : لا فرق بين أولئك المشركين الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته عند سماع أحاديثه ، وسماع كلام الله تعالى من لسانه الشريف ، وبين هؤلاء الذين يقدمون الرأي على الرواية بعد مماته عند الوقوف عليها في كتب السنة المطهرة .
ومن هنا قيل : إن من فسد من علمائنا ، ففيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا ، ففيه شبه من النصارى . والله الهادي ، وهو المستعان . رواه . مسلم
قال في الترجمة : وجود الأسباب والشرائط ، والأمر والنهي ، والمدح والذم ، والعتاب والملامة ، لا ينفي سابقة القضاء والقدر ، وهما ثابتان ، بل ذلك كله داخل فيهما .
فتكلم موسى - عليه السلام - بمقتضى الظاهر ، وعالم الأسباب ، وموجب الأمر والنهي [ ص: 196 ] وتكلم آدم - عليه السلام - بمقتضى الحقيقة والنظر إلى التقدير .
وهما على الحق ، لأن هذه المحاجة والمناظرة كانت بينهما في عالم الحقيقة ، بعد ارتفاع موجب الكسب ورفع التكليف ، لا في عالم الأسباب ، الذي لا يجوز فيه قطع النظر عن الوسائط .
ولهذا قال آدم - عليه السلام - أيضا في زمن حياته : ربنا ظلمنا أنفسنا [الأعراف : 23] .
وبهذا ظهر أن حمل ملاقاتهما على إحياء آدم في زمن حياة موسى - عليه السلام - أنسب; لأن موسى كان في عالم الظاهر ، وآدم كان في عالم الحقيقة . والله أعلم . انتهى .
وأقول : الأظهر أن هذه المحاجة كانت في عالم الأرواح; لأنه لم يرد في إحياء آدم شيء من المرفوع ، حتى يصار إليه ، وليس هذا موضوع اجتهاد واحتمال من عالم .
وإذا علم هذا ، فقد ثبت أنه لم تكن المناظرة بينهما من الباب المشار إليه ، بل كان في عالم الروح ، واستدل كل منهما بما ظهر له في تلك الحالة .
ويؤيد هذا الكلام ما ورد في حديث آخر عن ابن عباس يرفعه موسى هابطا من الثنية» ، وله جؤار إلى الله بالتلبية» ، ثم أتى على ثنية هرشا ، فقال : «أي ثنية هذه ؟» ، قالوا : ثنية هرشا ، قال : كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء جعدة ، عليه جبة من صوف ، خطام ناقته خلبة ، وهو يلبي» رواه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بوادي الأزرق ، فقال : «أي واد هذا ؟» فقالوا : هذا وادي الأزرق ، قال : «كأني أنظر إلى . مسلم
قال : أكثر الروايات في وصفهم تدل على أنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك ليلة أسري به ، وقد وقع ذلك مبينا في رواية عياض عن أبي العالية . ابن عباس
[ ص: 197 ] ثم أجاب القاضي عن حجهم ، وهم في الدار الآخرة ، بأجوبة ذكرها النووي في «شرح . مسلم»
منها : أنهم كالشهداء ، بل أفضل منهم ، وهم أحياء عند ربهم . ومنها : أن هذه رؤية منام في غير ليلة الإسراء .
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم أري أحوالهم التي كانت في حياتهم ، ومثلوا له في حال حياتهم كيف كانوا .
ومنها : أن يكون أخبر عما أوحي إليه من أمرهم ، وما كان منهم . انتهى حاصله .
والحاصل : أن الظاهر من هذه الأحاديث : أن تلك الوقائع كانت في العالم العلوي ، لا في العالم السفلي ، والله أعلم .
وعن - رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة - بفتح الميم وتخفيف اللام - ، معناه : لا بد ، والبتة . «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة»
يعني : أن الله تعالى أثبت للآدمي نصيبا من الزنا ، وقدره بخلق الحواس والقوى التي يدرك بها اللذة ، وبالإيداع ، وتركيب الشهوة فيه ، وبالميل إلى النساء ، وهو واجده البتة ، إلا من شاء الله أن يحفظه ويصونه من حقيقة الزنا ، وهي إدخال الفرج في الفرج .
ويوقع من شاء في الزنا المجازي ، الذي هو النظر الحرام ، والكلام الحرام كما قال : ، وعلى هذا القياس زنا الأذن ، واليد ، والرجل ، والقلب والنفس تمنى وتشتهي ، «فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق» متفق عليه . والفرج يصدق ذلك ويكذبه»
وفي رواية لمسلم ، قال : . «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا ، مدرك ذلك لا محالة ، العينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه [ ص: 198 ] الكلام ، واليد زناها البطش ، والرجل زناها الخطا ، والقلب يهوى ويتمنى . ويصدق ذلك الفرج ويكذبه»
وهذا الحديث دليل على ثبوت القدر ، وحجة على منكريه ، وأن كل حسنة وسيئة تقع ، إنما تقع حسب قضاء الله وقدره ، ولا بد من موافقة أعمال العباد بهما ، ولا مفر منهما إلا إلى الله .
وفي حديث : عمران بن حصين ; أي : يفعلونه بقدرة واختيار منهم ، من غير أن مضى عليهم قدر وقضاء مما أتاهم به نبيهم ، وثبتت الحجة عليهم; بظهور صدق الرسل ، من طريق المعجزات . «أن رجلين من مزينة قالا : يا رسول الله ! أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه; أي : يجهدون ويسعون «أشيء قضي عليهم ، ومضى فيهم ، من قدر سبق ، أو فيما يستقبلون به ؟»
والمعنى : أنه ليس القدر والقضاء ، إنما جاءت الرسل ، فأمروا الناس ونهوهم من تلقاء أنفسهم .
والناس في عمل الطاعة والمعصية مختارون قادرون ، كما هو مذهب القدرية ، ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [الشمس : 7-8] . فقال : «لا» ; أي : ليس أمر مستقبل ، «بل شيء قضي عليهم ، ومضى فيهم ، وتصديق ذلك في كتاب الله - عز وجل - :
قال في الترجمة : تسوية النفس : عبارة عن خلقها على وجه السوية والاعتدال بمقتضى الحكمة والمصلحة ، بتركيب القوى ، والآلات التي استعدت بها للفهم والإفهام ، وصارت قابلة للتكليف وصدور الأفعال .
وإلهام الفجور بالأمور الجبلية ، والقضايا الطبيعية; بتركيب حب الشهوات الحسية فيها .
وإلهام التقوى بالنصوص الشرعية ، والأدلة العقلية; بتلقين علم المقدمات اليقينية ، وتصديق الحديث في قوله سبحانه : فسواها ; فإنه يدل على أن الكل بخلقه وتقديره . انتهى . رواه . مسلم
[ ص: 199 ] والحديث من الأدلة الصريحة على . ثبوت القدر والقضاء
ويدل له حديث مرفوعا من أبي هريرة ، وفيه : البخاري جف القلم بما أنت لاق ، فاختص على ذلك ، أو ذر» أبا هريرة! . «يا
يعني : أن التقدير مضى وفرغ من كتبها ، وما قضى وقدر كائن لا محالة ، فإن شئت أن تصير خصيا ، فكن ، وإن شئت ، ترضى بالقدر .
قال في الترجمة : فيه التهديد عليه على التدبير في مقابلة التقدير ، والفرار من القدر بالاختصاء ، وليس هذا بإذن فيه ، بل توبيخ ، وعلامة على الاستئذان في قطع العضو بلا فائدة .
وفي بعض نسخ «المصابيح» : «فاختصر» ; من اختصار الكلام ، وعلى هذا ، فالتهديد على الأول في الأمر الأول ، وعلى الثاني في الثاني . والله أعلم .
وهذا آخر الأحاديث التي ذكرناها في هذا الباب ، وفيه أحاديث أخرى لم نذكرها ، وفيما ذكرناه كفاية وهداية ، وعن إنكار القدر وقاية .