الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في تزكية مال القراض إذا نض]

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا لم يزك مال القراض حتى نض، وأحضر للمقاسمة في نصيب العامل، هل يزكى على ملك صاحب المال، أو على ملك العامل ويكون بذلك الجزء كالشريك؟ فروى أشهب عن مالك: أنه يزكى على ملك صاحب المال، فإن عمل به شهرا وهو تمام حول رب المال زكاه. ولو كان رأس المال [ ص: 935 ] خمسة دنانير ربح فيها خمسة، ولصاحب المال عشرة دنانير- زكى العامل نصيبه وإن كان دينارا واحدا. وكذلك إن كان على العامل دين، أو كان عبدا أو نصرانيا.

                                                                                                                                                                                        فإن كان المال لعبد أو نصراني; لم يزك العامل نصيبه، وإن صار له نصاب، وهو حر مسلم، لا دين عليه.

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم: لا يزكى إلا أن يعمل به حولا، وإن فاصل في ذلك المال قبل الحول استأنف به حولا; لأنه فائدة. وإن كان على صاحب المال دين يغترق جميع المال، أو على العامل ما يغترق نصيبه من الربح- لم يزكه. وإن بقي بعد دينه دينار زكاه.

                                                                                                                                                                                        وإن كان المال لعبد أو نصراني، لم يزك العامل، وعلى قوله: إن كان المال لحر مسلم، والعامل عبد أو نصراني لم يزك، كما لم يزك إذا كان عليه دين، وكل هذا اضطراب; لأنه جعله كالشريك في قوله: أنه لا يزكي حتى يعمل به حولا ولا يكون عليه دين، ثم نقض ذلك بقوله: إذا فاصله قبل تمام السنة; لأنه لا يحتسب بما مضى من الشهور قبل المفاصلة، وأنه يزكي نصيبه وإن كان أقل من نصاب.

                                                                                                                                                                                        وقياد قوله: لا زكاة عليه إذا لم يعمل به حولا، أو كان عليه دين لا يسقط الزكاة، إذا كان العامل حرا مسلما. [ ص: 936 ]

                                                                                                                                                                                        وإن كان المال لعبد أو لنصراني، فقال في كتاب محمد: لا يزكي حتى يصير له في نصيبه عشرون دينارا، وهذا موافق لقوله في مراعاة الحول، وما عليه من الدين.

                                                                                                                                                                                        وقياد قوله في الشاة: أنها على صاحب المال دون العامل، تكون زكاة العين كذلك على رب المال دون العامل، وهو أقيس في المسألتين جميعا; لأن ما يأخذه العامل ثمنا لمنافعه، وهو بمنزلة من باع سلعة للقنية بثمن إلى أجل، وقول ابن القاسم في ذلك: أنه يستأنف بالثمن حولا. ويؤيد هذا قوله: إذا فاصله قبل تمام الحول، أنه يستأنف بالثمن حولا.

                                                                                                                                                                                        وقال محمد: مثل ما يخرج من الربح للعامل مثل الإجارة يخرجها من مال بعد وجوب الزكاة في ذلك المال.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا عمل به أعواما، فقال مالك في كتاب محمد: يزكي لعام واحد.

                                                                                                                                                                                        وقال أيضا: يزكي لجميع الأعوام. وهذا هو الصحيح; لأن المال كان في تلك الأعوام في يد وكيله على وجه التنمية، فمن عمل به ثلاثة أحوال وكان في الأول مائة، وفي الثاني مائتين، وفي الثالث ثلاثمائة- زكى عن كل عام ما كان في يديه إلا ما حطت الزكاة.

                                                                                                                                                                                        وإن كان في الأول مائة، وفي الثاني مائتين، وفي الثالث مائة - زكى عن مائة مائة في كل عام إلا [ ص: 937 ] ما حطت الزكاة; لأن المائة التي خسرت في العام الأوسط تسقط زكاتها; لأنه مال غير مفرط في زكاته، فلا تتعلق في الذمة.

                                                                                                                                                                                        وإن كان في الأول مائتين، وفي الثاني مائة، والثالث مائتين- زكى عن الأول عن مائة، ثم عن مائة، ثم عن مائتين.

                                                                                                                                                                                        وفي كتاب محمد إذا زكى صاحب المال ماله وهو في يد العامل، أنه يزكي عن رأس ماله ما ينوبه من الربح، وهذا أيضا إنما يصح على القول أنه كالشريك.

                                                                                                                                                                                        واختلف في العامل إذا تفاصلا بعد أعوام هل يزكي لعام واحد أو لأعوام.

                                                                                                                                                                                        وأرى أن يزكي لجميع الأعوام; لأنه على أحد الوجهين: إما أن يقول أنه مزكى على ملك رب المال; والزكاة تجب لجميع الأعوام، أو على ملك العامل وأنه شريك فيه; فيزكيه لجميع الأعوام. أو يقال: إنه فائدة فيستأنف به حولا، ولا وجه أن يزكى لعام واحد.

                                                                                                                                                                                        وقال محمد فيمن أخذ مائة دينار قراضا، عمل فيها ثمانية أشهر فتحاسبا، فجاءه برأس المال، وبقي الربح في سلعة فباعها بعد الحول، وصار للعامل [ ص: 938 ] عشرون دينارا- فلا زكاة عليه. وهذا أصل ابن القاسم في المدونة إذا صار إلى العامل ربح قبل تمام الحول، أنه يستأنف به حولا.

                                                                                                                                                                                        وفي المجموعة: أن عليه الزكاة. يريد: لأنه قد بقي عليه عمل من سبب القراض وهو الربح، فعليه أن يبيعه لرب المال حتى ينض، ولا يستحق العامل نصيبه من الربح إلا بذلك.

                                                                                                                                                                                        قال محمد: فإن باع بخمسة وتسعين; وباع ما بقي بخمسة وعشرين لم تكن على العامل زكاة عند ابن القاسم حتى يبيع الباقي بخمسة وأربعين. وأما صاحب المال: فإن بقي بيده ما إن ضمه إلى ما يأخذه وجبت فيه الزكاة- زكى وإلا لم يزك.

                                                                                                                                                                                        قال محمد: ويزكي نصف دينار. يريد: ربع عشر نصف دينار، وجعل الربح مفضوضا، فما قابل الخمسة وتسعين سقطت زكاته; لأن العامل فاصل فيه قبل الحول، وما قابل الخمسة من بقية رأس المال زكاه على قول أشهب عن مالك; لأنه إذا أضاف الخمسة وربحها إلى ربح رب [ ص: 939 ] المال فيما قابل ما فاصل فيمن وجده نصابا، فزكى جميع ذلك على ملك رب المال; لأن ما قابل ما فاصله فيه لو كان مقبوضا قبل ذلك عند رب المال لأضاف الباقي في يد العامل إليه، كما قال فيمن دفع خمسة دنانير قراضا فربح فيها حتى صارت عشرة وبيد رب المال عشرة أخرى أن على العامل الزكاة.

                                                                                                                                                                                        وفض الربح حسب ما ذكره محمد ليس بحسن; لأن الربح لا يستحق إلا بعد نضوض المال. ولو خسر في السلعة فلم يحصل فيها إلا خمسة دنانير لكانت لصاحب المال، ولو جعل العامل شريكا فيها، فبيعت بخمسة دنانير، لكانت مفضوضة على قدر ما بقي من رأس المال، وعلى قدر ربح ذلك اليوم، وفي فساد ذلك ما يمنع الفض على ما كان من القيمة يوم المفاصلة.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية