الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في تعريف الفقير والمسكين]

                                                                                                                                                                                        واختلف في الفقير والمسكين ، فقال مالك في كتاب ابن سحنون : الفقير الذي لا غنى له ، ويتعفف ولا يسأل ، والمسكين الذي لا غنى له ، وهو يسأل . وقال في المجموعة : الفقير الذي يحرم الرزق ، والمسكين الذي لا يجد غنى ، ولا يسأل ، ولا يفطن له . [ ص: 987 ]

                                                                                                                                                                                        وقال أبو محمد عبد الوهاب : الفقير الذي له الشيء اليسير الذي لا يكفيه ، والمسكين الذي لا يملك شيئا . وقيل عكسه : الفقير الذي لا شيء له ، والمسكين الذي له ما لا يكفيه .

                                                                                                                                                                                        وقال أبو القاسم ابن الجلاب : هما اسمان لمعنى واحد ، وهو من يملك شيئا يسيرا لا يكفيه ، ولا يقوم بمؤنته . واحتج من قال إن الفقير له شيء بقول الشاعر :


                                                                                                                                                                                        أما الفقير الذي كانت حلوبته . . . وفق العيال فلم يترك له سبد



                                                                                                                                                                                        وأما من قال : إنه الذي لا شيء له ؛ فلأن اشتقاق الفقير من فقار الظهر ، فكأنه بمنزلة من أصيب فقاره ، ومن أصيب في ذلك خشي عليه الموت .

                                                                                                                                                                                        واختلف في قوله -عز وجل- : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف [البقرة : 273] ، فاحتج به من نفى عن الفقير السؤال ؛ لأنه يظن به أنه غني لتعففه عن المسألة ، وقد بلغ به الجهد والخصاصة حتى ظهرت عليه ، وعرفت في سيمته . وقيل فيها غير ذلك ، واحتج بها من قال : إنه يسأل ، لقوله تعالى : لا يسألون الناس إلحافا [البقرة : 273] . يقول : إنه يسأل الناس ولا يلحف ، وليس كذلك ؛ لأن الله تعالى قد أخبر أنه يتعفف عن المسألة ، والمراد ؛ أنه لا يسأل ولا يلحف ؛ لأنه يصح أن يسمى : [ ص: 988 ]

                                                                                                                                                                                        ملحفا إذا كان عنده شيء وإن لم يتكرر منه السؤال . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا" واستشهد من قال : المسكين يقع على من له شيء . بقوله -عز وجل- : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر [الكهف : 79] ، فأثبت لهم سفينة وليس كذلك ، والمساكين ها هنا المسكنة وقلة المقدرة على الدفاع من ظلم ذلك الملك وهذا مثل قوله -عز وجل- : وضربت عليهم الذلة والمسكنة [البقرة : 61] ، واحتج من قال لا شيء له بقوله -عز وجل- : أو مسكينا ذا متربة [البلد : 16] ، وليس هذا أيضا بالبين ، وإنما وصف بأنه ذو متربة ؛ لأن ذلك نهاية ما يبلغه من الفقر ، وفيه دليل على أنه يكون مسكينا فوق هذه الصفة ، ولهذه خص من بين غيره ، فقيل : ذا متربة .

                                                                                                                                                                                        واستشهد من نفى عنه السؤال بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي ليس له غنى يغنيه ، ويستحي فلا يسأل الناس إلحافا" وهذا لفظ البخاري ، ومحمل هذا الحديث أنه ليس كغيره ممن بلغ به الحال ولا يسأل ، وليس لأنه لا يقع عليه اسم مسكين . وفي الترمذي : "جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، إن المسكين ليقوم على بابي ، فما أجد له شيئا أعطيه إياه ، فقال : إن لم تجدي إلا ظلفا [ ص: 989 ] محرقا فادفعيه إليه" .

                                                                                                                                                                                        وفي البخاري ومسلم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "كان في بني إسرائيل ثلاثة : أبرص وأقرع وأعمى ، فبعث الله إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال له : أي شيء أحب إليك ؟ فقال له : لون حسن وجلد حسن ، فمسحه فذهب ما به ، وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا -الحديث بطوله ثم قال :- ثم أتى الملك للأبرص في صورته فقال : رجل مسكين ، تقطعت به الحبال في سفره ، ولا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن بعيرا أتبلغ به في سفري" ، ثم سمى نفسه للثاني والثالث مسكينا . [ ص: 990 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية