الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في الخلاف في قتل العلج]

                                                                                                                                                                                        اختلف في العلج يلقاه المسلمون ، فيقول : جئت أطلب الأمان ، هل يقبل منه ؟

                                                                                                                                                                                        فقال مالك في المدونة : هذه أمور مشكلة ، ويرد إلى مأمنه .

                                                                                                                                                                                        وقال في مدونة أشهب : لا يقبل قوله .

                                                                                                                                                                                        ولم يفرق في هذين القولين بين أن يؤخذ في بلاد الحرب ، أو في بلاد المسلمين . وقال في المدونة في أهل مصيصة يخرجون في بلاد الروم ، فيلقى العلج منهم مقبلا إلينا ، فإذا أخذناه ؛ قال : جئت أطلب الأمان . قال : هذه أمور مشكلة ، ويرد إلى مأمنه .

                                                                                                                                                                                        وقال محمد : إن لقيته السرية على الطريق ، فقال : جئت أطلب الأمان ، أو رسولا ، فإن ظفر به في بلد العدو ؛ لم يقبل قوله ، إلا بدلالة تحق قوله . ولو صار [ ص: 1359 ] في عمل المسلمين ، ولم يدخل بعد ، ولعله يقول : أنتهي إلى موضع سماه ؛ فأمر هذا مشكل ، وترك الشك أفضل .

                                                                                                                                                                                        وقال ابن القاسم في العتبية : إن أخذ ببلدنا ؛ فقال : جئت أطلب الفداء ؛ قبل قوله . وإن أخذ بفور وصوله ؛ فهو مثله .

                                                                                                                                                                                        وإن لم يظهر عليه إلا بعد طول إقامة بين أظهرنا ؛ لم يقبل قوله ، ويسترق . وليس هو لمن وجده .

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ -رحمه الله- : إن قام دليل على صدقه ؛ كان آمنا ، ولم يسترق . وإن قام دليل على كذبه ؛ لم يقبل قوله ، وكان رقيقا . وإن لم يقم دليل على صدقه ولا كذبه ؛ فهو موضع الخلاف .

                                                                                                                                                                                        فرأى مرة أنه صار أسيرا رقيقا بنفس الأخذ ؛ لأنه يدعي وجها يزيل ذلك عنه من غير دليل . ورأى مرة أن يقبل قوله ؛ لإمكان أن يكون صدق ، ولا يسترق بالشك . وهو أحسن .

                                                                                                                                                                                        فإن قال : جئت رسولا . ومعه مكاتبة ، أو قال : جئت لفداء . وله من يفديه ، أو لقريب لي . وله قرابة بذلك البلد ؛ كان دليلا على صدقه . وإن لم تكن معه مكاتبة وليس مثله يرسل . أو لم يكن له من يفديه ، أو لا قرابة له ؛ لم يصدق .

                                                                                                                                                                                        فإن قال : جئت أطلب الأمان . وقد خرج إليهم عسكر المسلمين ، فوجد [ ص: 1360 ] على طريق الجيش بلا سلاح ؛ كان أمره مشكلا .

                                                                                                                                                                                        وإن لم يكن مقبلا إلينا ، ولا على طريقهم ؛ لم يصدق .

                                                                                                                                                                                        وإن لم يكن خرج إليهم جيش ، فلقيه في بلاد المسلمين ؛ لم يقبل قوله ؛ لأنه لا يشبه أن يأتي إلى بلاد المسلمين يطلب الأمان من غير أمر يوجب ذلك ، إلا أن يكون الجيش على خروج إليهم . ومن لم يدع شيئا من ذلك ؛ كان فيئا .

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في العدو يوجد على ساحل المسلمين ، فزعموا أنهم تجار ؛ فلا يقبل منهم . ولا يكونوا لأهل تلك القرية التي سقطوا إليها فيهم شيء . ويكون الأمر فيهم إلى والي المسلمين ، يرى فيهم رأيه .

                                                                                                                                                                                        وقال فيمن انكسرت مراكبهم ، فزعموا أنهم تجار ، ومعهم السلاح . أو ينزلون للماء ، وهم يشكون العطش : أن الإمام يرى فيهم رأيه ، وليسوا لمن أخذهم . قال الشيخ -رحمه الله- : إن زعموا أنهم تجار ، ومعهم متاجر العادة السفر بها إلى بلاد المسلمين ؛ صدقوا . وإن لم تكن العادة السفر بها إلى بلاد المسلمين ، أو لا متاجر معهم ، ومعهم سلاح ؛ كانوا فيئا .

                                                                                                                                                                                        وإن لم تكن متاجر ولا سلاح ، ولا يدرى ما كان معهم ، وادعوا أنهم كانت معهم متاجر ، فإن كانوا من بلد ليس من شأنه السفر إلى بلاد المسلمين ؛ [ ص: 1361 ] كان دليلا على كذبهم .

                                                                                                                                                                                        وكذلك ، إن كان شأنهم السفر إلينا ، وأشكل أمرهم ، هل كانت معهم متاجر ؟

                                                                                                                                                                                        فإن كانت معهم متاجر ، وعلم أنهم لم يبرزوا المتاجر خديعة ؛ صدقوا ، وقبل قولهم . وإن لم يكن معهم متاجر ؛ كان دليلا على كذبهم وكانوا فيئا ؛ لأن هؤلاء قد ألجئوا إلينا ، بخلاف من أتى يمشي طائعا ، ولو كان أعيان هؤلاء شأنهم السفر إلينا ؛ لصدقوا .

                                                                                                                                                                                        وإن احتيج إلى قتال الذين يشكون العطش ومراكبهم قائمة ، ثم قدر عليهم بعد القتال ، فإن لم يكن ريح ينجون بها ، كانوا كالذين انكسرت مراكبهم ، وهم كأسارى قاتلوا ، فإن كان لهم ريح ينجون بها ، وطلع إليهم المسلمون ، وأخذوا بعد القتال ؛ كانوا لمن أخذهم ، وفيهم خمس المسلمين ، إلا أن يكونوا لم يقدروا على قتالهم ، إلا لمكان جملة المسلمين الذين بالمدينة . ولو كانوا على بعد من المدينة ، ولم يقدروا عليهم بانفرادهم ، فيكونوا لجميع من أخذهم ولأهل المدينة ، والذين أخذوهم حينئذ بمنزلة سرية قويت بجيش من خلفها .

                                                                                                                                                                                        وعلى هذا الجواب فيمن أتى من العدو في البر فأخذ بعد قتال . فإن كانوا في طرف من بلاد الإسلام ، كانوا لمن أخذهم ، وفيهم الخمس ؛ لأنه لولا قتالهم إياهم للحقوا ببلادهم .

                                                                                                                                                                                        وإن كانوا على غير ذلك ؛ كانوا فيئا ، ولا شيء لمن أخذهم ؛ لأن بلاد جميع المسلمين أحدقت بهم وشملتهم ، فهم في قتالهم كأسارى قاتلوا . [ ص: 1362 ]

                                                                                                                                                                                        وكل موضع يكونون فيه فيئا ، فإن الإمام مخير بين الأوجه الخمسة : القتل والاسترقاق والجزية والمن والفداء .

                                                                                                                                                                                        وهذا معنى قول مالك : يرى فيهم الإمام رأيه .

                                                                                                                                                                                        وقال محمد في مراكب تكسرت ، فوجد فيها الذهب والفضة والمتاع والطعام : فإن كان ذلك مع الحربيين ؛ كان سبيله سبيل الحربيين ، وأمر ذلك كله إلى الوالي . وإن لم يكن معه أحد من العدو والذين كان لهم ، أو كانوا طرحوه خوف الغرق ؛ كان لمن وجده ، ويخمس العين وحده ، إلا أن يكونوا في جنب قرية من قراهم ؛ فيخمس ، وإن لم يكن عينا ، إلا أن يكون يسيرا .

                                                                                                                                                                                        روى ذلك أشهب عن مالك .

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية