ومن نظر إلى الأحوال الغالبة على أهل الزمان وإعراضهم عن الله وإقبالهم على الدنيا واعتيادهم المعاصي استعظم أمر نفسه بأدنى رغبة في الخير يصادفها في قلبه وذلك هو الهلاك .
ويكفي في تغيير الطبع مجرد سماع الخير والشر فضلا عن مشاهدته .
وبهذه الدقيقة يعرف سر قوله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=treesubj&link=18422عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة .
وإنما الرحمة دخول الجنة ولقاء الله وليس ينزل عند الذكر عين ذلك ولكن سببه وهو انبعاث الرغبة من القلب وحركة الحرص على الاقتداء بهم والاستنكاف عما هو ملابس له من القصور والتقصير .
ومبدأ الرحمة فعل الخير ومبدأ فعل الخير الرغبة ومبدأ الرغبة ذكر أحوال الصالحين فهذا معنى نزول الرحمة .
والمفهوم من فحوى هذا الكلام عند الفطن كالمفهوم من عكسه وهو أن عند ذكر الفاسقين تنزل اللعنة لأن كثرة ذكرهم تهون على الطبع أمر المعاصي واللعنة هي البعد .
ومبدأ البعد من الله هو المعاصي والإعراض عن الله بالإقبال على الحظوظ العاجلة والشهوات الحاضرة لا على الوجه المشروع .
ومبدأ المعاصي سقوط ثقلها وتفاحشها عن القلب .
ومبدأ سقوط الثقل وقوع الأنس بها بكثرة السماع .
إذا ، كان هذا حال ذكر الصالحين والفاسقين ، فما ظنك بمشاهدتهم بل قد صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : مثل الجليس السوء كمثل الكير إن لم يحرقك بشرره علق بك من ريحه .
فكما أن الريح يعلق بالثوب ولا يشعر به فكذلك يسهل الفساد على القلب وهو لا يشعر به .
وقال مثل الجليس الصالح مثل صاحب المسك إن لم يهب لك منه تجد ريحه ولهذا أقول : من عرف من عالم زلة حرم عليه حكايتها لعلتين : إحداهما أنها : غيبة والثانية : وهي أعظمهما .
أن حكايتها تهون على المستمعين أمر تلك الزلة ويسقط من قلوبهم استعظامهم الإقدام عليها فيكون ذلك سببا لتهوين تلك المعصية فإنه مهما وقع فيها فاستنكر ذلك دفع الاستنكار ، وقال : كيف يستبعد هذا منا وكلنا مضطرون إلى مثله حتى العلماء والعباد ، ولو اعتقد أن مثل ذلك لا يقدم عليه عالم ولا يتعاطاه موفق معتبر لشق عليه الإقدام فكم من شخص يتكالب على الدنيا ويحرص على جمعها ويتهالك على حب الرياسة وتزيينها ويهون على نفسه قبحها ويزعم أن الصحابة رضي الله عنهم لم ينزهوا أنفسهم عن حب الرياسة وربما يستشهد عليه بقتال
nindex.php?page=showalam&ids=8علي nindex.php?page=showalam&ids=33ومعاوية ويخمن في نفسه أن ذلك لم يكن لطلب الحق بل لطلب الرياسة فهذا الاعتقاد خطأ يهون عليه أمر الرياسة ولوازمها من المعاصي .
والطبع اللئيم يميل إلى اتباع الهفوات والإعراض عن الحسنات بل إلى تقدير الهفوة فيما لا هفوة فيه بالتنزيل على مقتضى الشهوة ليتعلل به وهو من دقائق مكايد الشيطان ولذلك وصف الله المراغمين للشيطان فيها بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=18الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وضرب صلى الله عليه وسلم لذلك مثلا وقال :
nindex.php?page=treesubj&link=32627مثل الذي يجلس يستمع الحكمة ثم لا يعمل إلا بشر ما يستمع كمثل رجل أتى راعيا ، فقال له : يا راعي اجرر لي شاة من غنمك فقال اذهب فخذ خير شاة فيها فذهب عليه السلام فأخذ بأذن كلب الغنم .
وَمَنْ نَظَرَ إِلَى الْأَحْوَالِ الْغَالِبَةِ عَلَى أَهْلِ الزَّمَانِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ اللَّهِ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا وَاعْتِيَادِهِمُ الْمَعَاصِيَ اسْتَعْظَمَ أَمْرَ نَفْسِهِ بِأَدْنَى رَغْبَةٍ فِي الْخَيْرِ يُصَادِفُهَا فِي قَلْبِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْهَلَاكُ .
وَيَكْفِي فِي تَغْيِيرِ الطَّبْعِ مُجَرَّدُ سَمَاعِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَضْلًا عَنْ مُشَاهَدَتِهِ .
وَبِهَذِهِ الدَّقِيقَةِ يُعْرَفُ سِرُّ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=treesubj&link=18422عِنْدَ ذِكْرِ الصَّالِحِينَ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ .
وَإِنَّمَا الرَّحْمَةُ دُخُولُ الْجَنَّةِ وَلِقَاءُ اللَّهِ وَلَيْسَ يَنْزِلُ عِنْدَ الذِّكْرِ عَيْنُ ذَلِكَ وَلَكِنْ سَبَبُهُ وَهُوَ انْبِعَاثُ الرَّغْبَةِ مِنَ الْقَلْبِ وَحَرَكَةُ الْحِرْصِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَالِاسْتِنْكَافُ عَمَّا هُوَ مُلَابِسٌ لَهُ مِنَ الْقُصُورِ وَالتَّقْصِيرِ .
وَمَبْدَأُ الرَّحْمَةِ فِعْلُ الْخَيْرِ وَمَبْدَأُ فِعْلِ الْخَيْرِ الرَّغْبَةُ وَمَبْدَأُ الرَّغْبَةِ ذِكْرُ أَحْوَالِ الصَّالِحِينَ فَهَذَا مَعْنَى نُزُولِ الرَّحْمَةِ .
وَالْمَفْهُومُ مِنْ فَحْوَى هَذَا الْكَلَامِ عِنْدَ الْفَطِنِ كَالْمَفْهُومِ مِنْ عَكْسِهِ وَهُوَ أَنَّ عِنْدَ ذِكْرِ الْفَاسِقِينَ تَنْزِلُ اللَّعْنَةُ لِأَنَّ كَثْرَةَ ذِكْرِهِمْ تُهَوِّنُ عَلَى الطَّبْعِ أَمْرَ الْمَعَاصِي وَاللَّعْنَةُ هِيَ الْبُعْدُ .
وَمَبْدَأُ الْبُعْدِ مِنَ اللَّهِ هُوَ الْمَعَاصِي وَالْإِعْرَاضُ عَنِ اللَّهِ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْحُظُوظِ الْعَاجِلَةِ وَالشَّهَوَاتِ الْحَاضِرَةِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ .
وَمَبْدَأُ الْمَعَاصِي سُقُوطُ ثِقَلِهَا وَتَفَاحُشُهَا عَنِ الْقَلْبِ .
وَمَبْدَأُ سُقُوطِ الثِّقَلِ وُقُوعُ الْأُنْسِ بِهَا بِكَثْرَةِ السَّمَاعِ .
إِذَا ، كَانَ هَذَا حَالَ ذِكْرِ الصَّالِحِينَ وَالْفَاسِقِينَ ، فَمَا ظَنُّكَ بِمُشَاهَدَتِهِمْ بَلْ قَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : مَثَلُ الْجَلِيسِ السُّوءِ كَمَثَلِ الْكِيرِ إِنْ لَمْ يَحْرِقْكَ بِشَرَرِهِ عَلِقَ بِكَ مِنْ رِيحِهِ .
فَكَمَا أَنَّ الرِّيحَ يَعْلَقُ بِالثَّوْبِ وَلَا يَشْعُرُ بِهِ فَكَذَلِكَ يَسْهُلُ الْفَسَادُ عَلَى الْقَلْبِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ .
وَقَالَ مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ مَثَلُ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِنْ لَمْ يَهَبْ لَكَ مِنْهُ تَجِدْ رِيحَهُ وَلِهَذَا أَقُولُ : مَنْ عَرَفَ مِنْ عَالِمٍ زَلَّةً حَرُمَ عَلَيْهِ حِكَايَتُهَا لِعِلَّتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا أَنَّهَا : غِيبَةٌ وَالثَّانِيَةُ : وَهِيَ أَعْظَمُهُمَا .
أَنَّ حِكَايَتَهَا تُهَوِّنُ عَلَى الْمُسْتَمِعِينَ أَمْرَ تِلْكَ الزَّلَّةِ وَيَسْقُطُ مِنْ قُلُوبِهِمُ اسْتِعْظَامُهُمُ الْإِقْدَامَ عَلَيْهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَهْوِينِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّهُ مَهْمَا وَقَعَ فِيهَا فَاسْتَنْكَرَ ذَلِكَ دَفْعُ الِاسْتِنْكَارِ ، وَقَالَ : كَيْفَ يُسْتَبْعَدُ هَذَا مِنَّا وَكُلُّنَا مُضْطَرُّونَ إِلَى مَثَلِهِ حَتَّى الْعُلَمَاءُ وَالْعِبَادُ ، وَلَوِ اعْتَقَدَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ عَالِمٌ وَلَا يَتَعَاطَاهُ مُوَفَّقٌ مُعْتَبَرٌ لَشَقَّ عَلَيْهِ الْإِقْدَامُ فَكَمْ مِنْ شَخْصٍ يَتَكَالَبُ عَلَى الدُّنْيَا وَيَحْرِصُ عَلَى جَمْعِهَا وَيَتَهَالَكُ عَلَى حُبِّ الرِّيَاسَةِ وَتَزْيِينِهَا وَيَهُونُ عَلَى نَفْسِهِ قُبْحُهَا وَيَزْعُمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يُنَزِّهُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ حُبِّ الرِّيَاسَةِ وَرُبَّمَا يَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِ بِقِتَالِ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيٍّ nindex.php?page=showalam&ids=33وَمُعَاوِيَةَ وَيُخَمِّنُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِطَلَبِ الْحَقِّ بَلْ لِطَلَبِ الرِّيَاسَةِ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ خَطَأٌ يُهَوِّنُ عَلَيْهِ أَمْرَ الرِّيَاسَةِ وَلَوَازِمَهَا مِنَ الْمَعَاصِي .
وَالطَّبْعُ اللَّئِيمُ يَمِيلُ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَفَوَاتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْحَسَنَاتِ بَلْ إِلَى تَقْدِيرِ الْهَفْوَةِ فِيمَا لَا هَفْوَةَ فِيهِ بِالتَّنْزِيلِ عَلَى مُقْتَضَى الشَّهْوَةِ لِيَتَعَلَّلَ بِهِ وَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ مَكَايِدِ الشَّيْطَانِ وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ الْمُرَاغِمِينَ لِلشَّيْطَانِ فِيهَا بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=18الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وَضَرَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ مَثَلًا وَقَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=32627مَثَلُ الَّذِي يَجْلِسُ يَسْتَمِعُ الْحِكْمَةَ ثُمَّ لَا يَعْمَلُ إِلَّا بِشَرٍّ مَا يَسْتَمِعُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى رَاعِيًا ، فَقَالَ لَهُ : يَا رَاعِيَ اجْرُرْ لِي شَاةً مِنْ غَنَمِكَ فَقَالَ اذْهَبْ فَخُذْ خَيْرَ شَاةٍ فِيهَا فَذَهَبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخَذَ بِأُذُنِ كَلْبِ الْغَنَمِ .