الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر رحيل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة

                                                                                                                                                                                                                              لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من دفن أصحابه ، رضي الله عنهم ، ركب فرسه وخرج المسلمون حوله راجعين إلى المدينة ، فلقيته حمنة بنت جحش ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا حمنة : احتسبي » ، قالت : من يا رسول الله ؟ قال : «خالك حمزة بن عبد المطلب » . قالت : إن لله وإنا إليه راجعون ، غفر الله له ، هنيئا له الشهادة ، ثم قال لها : «احتسبي » ، قالت : من يا رسول الله ؟ قال : «أخوك عبد الله بن جحش » ، قالت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، غفر الله له ، هنيئا له الشهادة ، ثم قال لها : «احتسبي » ، قالت : من يا رسول الله ؟ قال : «زوجك مصعب بن عمير » ، قالت : واحزناه ، وفي لفظ : واعقراه ، وصاحت وولولت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن زوج المرأة [ ص: 228 ] منها لبمكان ، لما رأى من تثبتها على أخيها وخالها ، وصياحها على زوجها » ، ثم قال لها : «لم قلت هذا ؟ » قالت : يا رسول الله ، ذكرت يتم بنيه فراعني ، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولولدها أن يحسن الله تعالى عليهم من الخلف .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن ماجة عن إبراهيم بن أحمد بن عبيد الله بن جحش عن أبيه عن حمنة بنت جحش : أنه قيل لها : قتل أخوك ، فقالت : رحمه الله ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، فقالوا : قتل زوجك ، فقالت : واحزناه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن للزوج من المرأة لشغفة ما هي لشيء ! » .

                                                                                                                                                                                                                              وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى طلع على بني عبد الأشهل وهم يبكون على قتلاهم ، فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : لكن حمزة لا بواكي له ! فخرج النساء ينظرن إلى سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت أم عامر الأشهلية : كل مصيبة بعدك جلل !

                                                                                                                                                                                                                              ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بامرأة من بني دينار قد أصيب أبوها وزوجها وأخوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأحد ، فلما نعوا إليها قالت : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : خيرا يا أم فلان ، هو بحمد الله كما تحبين ، قالت : أرونيه حتى أنظر إليه فأشير بها إليه ، فلما رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل !

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لما كان يوم أحد حاص أهل المدينة حيصة ، وقالوا : قتل محمد ، حتى كثر الصراخ في ناحية المدينة ، فخرجت امرأة من الأنصار محزمة ، فاستقبلت بأبيها وابنها وزوجها وأخيها ، لا أدري أيهم استقبلت به أولا ، فلما مرت على آخرهم قالوا : أبوك ، زوجك ، أخوك ، ابنك ، فتقول : ما فعل رسول الله ؟ يقولون : أمامك ، حتى دفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذت بناحية ثوبه ، ثم قالت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لا أبالي إذا سلمت من عطب !

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي حاتم ، عن عكرمة مرسلا قال : لما أبطأ الخبر على النساء خرجن يستخبرن ، فإذا رجلان مقتولان على دابة أو بعير ، فقالت امرأة من الأنصار : من هذان ؟ قالوا : فلان وفلان : أخوها وزوجها أو زوجها وابنها . فقالت : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : حي ، قالت : فلا أبالي ، يتخذ الله من عباده شهداء ، وأنزل الله تعالى على ما قالت : ويتخذ منكم شهداء [آل عمران 140 ] [ ص: 229 ] وجاءت أم سعد بن معاذ ، وهي كبشة بنت رافع تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد وقف على فرسه ، وسعد بن معاذ آخذ بعنان فرسه ، فقال سعد : يا رسول الله ! أمي ! ، فقال : «مرحبا بها » ، فدنت حتى تأملت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت : أما إذ رأيتك سالما فقد أشوت المصيبة ، فعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمرو بن معاذ ابنها ، ثم قال : «يا أم سعد ، أبشري وبشري أهليهم : أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعا ، وقد شفعوا في أهليهم » قالت : رضينا يا رسول الله ، ومن يبكي عليهم بعد هذا ؟ ثم قالت : يا رسول الله ادع لمن خلفوا فقال : «اللهم أذهب حزن قلوبهم ، واجبر مصيبتهم ، وأحسن الخلف على من خلفوا » ، ثم قال : «خل يا أبا عمرو - يعني سعد بن معاذ - الدابة » ، فخلى سعد الفرس ، فتبعه الناس ، فقال : «أبا عمرو إن الجراح في أهل دارك فاشية ، وليس منهم مجروح إلا يأتي يوم القيامة جرحه كأغزر ما كان ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك ، فمن كان مجروحا فليقر في داره وليداو جرحه ، ولا يبلغ معي بيتي ، عزيمة مني » . فنادى فيهم سعد : عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم جريح من بني عبد الأشهل ، فتخلف كل مجروح ، فباتوا يوقدون النيران ، ويداوون الجرحى ، ومضى سعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء بيته ، فما نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ، عن فرسه إلا حملا ، واتكأ على سعد بن عبادة وسعد بن معاذ ، حتى دخل بيته ، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة ، فقال : «اغسلي عن هذا دمه ، فوالله لقد صدقني اليوم » ، وناولها علي بن أبي طالب سيفه ، فقال : «وهذا ، فاغسلي عنه دمه ، فوالله لقد صدقني اليوم » ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لئن كنت صدقت القتال لقد صدقه معك سهل بن حنيف وأبو دجانة » .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء علي بسيفه يوم أحد وقد انحنى ، فقال لفاطمة : هاك السيف حميدا ، فإنه قد شفاني اليوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لئن أجدت الضرب بسيفك لقد أجاد سهل بن حنيف ، وأبو دجانة ، وعاصم بن ثابت ، والحارث بن الصمة » .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن هشام : وحدثني بعض أهل العلم أن ابن أبي نجيح قال : نادى مناد يوم أحد :


                                                                                                                                                                                                                              لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا علي



                                                                                                                                                                                                                              يعني بذي الفقار سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي غنمه يوم بدر ، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد .

                                                                                                                                                                                                                              ولما أذن بلال بصلاة المغرب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو على تلك الحال ، يتوكأ على السعدين ، فصلى بهم ، ثم عاد إلى بيته . ومضى سعد بن معاذ إلى نسائه ونساء قومه ، فساقهن حتى لم تبق امرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يبكين حمزة بين المغرب [ ص: 230 ] والعشاء ، والناس في المسجد يوقدون النيران ، يتكمدون بها من الجراح .

                                                                                                                                                                                                                              وأذن بلال العشاء حتى غاب الشفق الأحمر ، فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى ذهب ثلث الليل ، ثم ناداه : الصلاة يا رسول الله ، فهب رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه وخرج ، فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل ، وسمع البكاء ، فقال : «ما هذا ؟ » فقيل : نساء الأنصار يبكين على حمزة ، فقال : «رضي الله عنكن وعن أولادكن » ، وأمر أن ترد النساء إلى منازلهن .

                                                                                                                                                                                                                              وذكر ابن هشام أنه صلى الله عليه وسلم خرج عليهن ، وهن على باب المسجد يبكين على حمزة فقال : «ارجعن رحمكن الله ، ولقد واسيتن ، رحم الله الأنصار ، فإن المواساة فيهم ما علمت قديمة » ، فرجعن بليل مع رجالهن .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو يعلى برجال الصحيح عن ابن عمر ، وعن أنس ، والإمام أحمد ، وابن ماجة بسند صحيح ، عن ابن عمر ، والطبراني ، عن ابن عباس رضي الله عنهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما رجع من أحد سمع نساء الأنصار يبكين على أزواجهن فقال : لكن حمزة لا بواكي له ، فبلغ النساء ذلك ، فجئن فبكين على حمزة ، فانتبه من الليل فسمعهن وهن يبكين ، فقال : ويحهن ما زلن يبكين منذ الليلة . مروهن ليرجعن ولا يبكين على هالك بعد اليوم » .

                                                                                                                                                                                                                              وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ، ثم رجع إلى بيته وقد صف له الرجال ما بين بيته إلى مصلاه يمشي وحده حتى دخل ، وباتت وجوه الأوس والخزرج على بابه في المسجد يحرسونه ، فرقا من قريش أن تكر .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية