الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر ما ظهر من ابن أبي في هذه الغزوة من النفاق

                                                                                                                                                                                                                              بينما المسلمون على ماء المريسيع وقد انقطع الحرب ، وهو ماء ظنون إنما يخرج في الدلو نصفه ، أتى سنان بن وبر الجهني وعلى الماء جمع من المهاجرين والأنصار ، فأدلى دلوه وأدلى جهجاه بن مسعود الغفاري أجير عمر بن الخطاب ، فالتبست دلو سنان ودلو جهجاه ، وتنازعا فضرب جهجاه سنانا فسال الدم ، فنادى سنان : يا للأنصار ، ونادى جهجاه : يا للمهاجرين ، وفي لفظ : يا لقريش ،

                                                                                                                                                                                                                              فأقبل جمع من الحيين ، وشهروا السلاح حتى كادت أن تكون فتنة عظيمة ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما بال دعوى الجاهلية ؟ ! فأخبر بالحال فقال :

                                                                                                                                                                                                                              «دعوها فإنها منتنة ، ولينصر الرجل أخاه ظالما كان أو مظلوما ، فإن كان ظالما فلينهه ، وإن كان مظلوما فلينصره»
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              وإن جماعة من المهاجرين كلموا عبادة بن الصامت ، وجماعة من الأنصار كلموا سنانا فترك حقه ، وكان عبد الله بن أبي جالسا مع عشرة مع المنافقين : [منهم] مالك ، وسويد ، وداعس ، وأوس بن قيظي ، ومعتب بن قشير ، وزيد بن اللصيت وعبد الله بن نبتل ، وفي القوم زيد بن أرقم رضي الله عنه وهو غلام لم يبلغ الحلم أو قد بلغ ، فبلغ ابن أبي صياح جهجاه : يا آل قريش ، فغضب ابن أبي غضبا شديدا ، وقال : والله ما رأيت كاليوم قط ، والله إن كنت لكارها لوجهي هذا ، ولكن قومي غلبوني ، أو قد فعلوها ؟ لقد نافرونا وكاثرونا في بلدنا ، وأنكروا منتنا ، والله ما صرنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل : «سمن كلبك يأكلك» ، والله لقد ظننت أني سأموت قبل أن أسمع هاتفا يهتف بما هتف به جهجاه ، وأنا حاضر لا يكون لذلك مني غير ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . ثم أقبل علي من حضر من قومه ، فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم : أنزلتموهم بلادكم فنزلوا ، وأسهمتموهم في أموالكم حتى استغنوا ، أما والله لو أمسكتم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم ، ثم لم يرضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضا للمنايا ، فقتلتم دونه ، فأيتمتم أولادكم وقللتم وكثروا .

                                                                                                                                                                                                                              فقام زيد بن أرقم بهذا الحديث كله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده نفرا من المهاجرين والأنصار ، فأخبره الخبر ، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وتغير وجهه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا . [ ص: 349 ]

                                                                                                                                                                                                                              غلام لعلك غضبت عليه ! قال : لا والله يا رسول الله ، فقد سمعته منه ، قال : لعله أخطأ سمعك ، قال : لا والله يا رسول الله ، قال : فلعله شبه عليك ، قال : لا والله يا رسول الله .

                                                                                                                                                                                                                              وشاع في العسكر ما قال ابن أبي ، وليس للناس حديث إلا ما قال ، وجعل الرهط من الأنصار يؤنبون الغلام ويلومونه ، ويقولون : عمدت إلى سيد قومك تقول عليه ما لم يقل ، وقد ظلمت وقطعت الرحم ! فقال زيد : والله لقد سمعت ما قال ، والله ما كان في الخزرج رجل واحد أحب إلي من عبد الله بن أبي ، ولو سمعت هذه المقالة من أبي لنقلتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإني لأرجو أن ينزل الله على نبيه ما يصدق حديثي .

                                                                                                                                                                                                                              فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ، مر عباد بن بشر- ويقال : محمد بن مسلمة - فليأتك برأسه ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المقالة ، وقال : لا يتحدث الناس إن محمدا يقتل أصحابه ،

                                                                                                                                                                                                                              وقام النفر من الأنصار الذين سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم ورده على الغلام ، فجاءوا إلى ابن أبي فأخبروه . وقال أوس بن خولي . يا أبا الحباب ، إن كنت قلته فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فليستغفر لك . ولا تجحده ، فينزل فيك ما يكذبك ، وإن كنت لم تقله فأت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذر له ، واحلف له ما قلته . فحلف بالله العظيم ما قال من ذلك شيئا .

                                                                                                                                                                                                                              ثم مشى ابن أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ابن أبي إن كانت منك مقالة فتب ، فجعل يحلف بالله ما قلت ما قال زيد ، ولا تكلمت به !

                                                                                                                                                                                                                              فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل» ، حدبا علي ابن أبي ودفعا عنه ، وكان شريفا في قومه عظيما ، فظان يظن أنه قد صدق ، وظان يظن به السوء .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية