وارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة وهو مؤيد منصور ، قرير العين بنصر الله تعالى ، ومعه الأسارى من المشركين ، فيهم عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، ومعه النفل الذي أصيب ، فلما خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية يقال له : سير ، إلى سرحة به ، فقسم هناك النفل الذي أفاءه الله على المسلمين من المشركين [على السواء] وقيل : بل استعمل عليها وكان فيها مائة وخمسون من الإبل ومتاع وأنطاع وثياب وأدم كثير ، حمله المشركون للتجارة ، فغنمه المسلمون ، وكانت الخيل التي غنمها عشرة أفراس ، وأصابوا سلاحا كثيرا ، وجمل خباب بن الأرت ، أبي جهل ، فصار للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل عنده يضرب في إبله ويغزو عليه ، حتى ساقه في هدي الحديبية .
يا رسول الله أتعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما تعطي الضعيف ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثكلتك أمك ، وهل تنصرون إلا بضعفائكم ؟ !» ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم : «من قتل قتيلا فله سلبه ومن أسر أسيرا فهو له» وكان يعطي من قتل قتيلا سلبه ، وأمر بما وجد في العسكر وما أخذوا بغير قتال فقسمه بينهم . سعد بن معاذ : وكانت السهمان على ثلاثمائة وسبعة عشر سهما ، والرجال ثلاثمائة وثلاثة عشر ، والخيل فرسان لهما أربعة أسهم . وثمانية نفر لم يحضروا القتال ، ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهامهم وأجورهم ، ثلاثة من ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقسم الغنائم على السواء قال المهاجرين ، وهم -خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنته عثمان بن عفان فماتت يوم قدوم رقية زيد بن حارثة ، وطلحة بن عبيد الله ، بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحسسان خبر العير ، ومن وسعيد بن زيد ، الأنصار أبو لبابة بن عبد المنذر ، خلفه على المدينة ، وعاصم بن عدي خلفه على أهل قباء وأهل العالية ، والحارث بن حاطب أمره بأمر في بني عمرو بن عوف ، وخوات بن جبير كسر بالروحاء ، والحارث بن الصمة كسر بالروحاء أيضا .
وروي أنه ضرب لسعد بن عبادة وسعد بن مالك الساعدي ، ورجلين آخرين من الأنصار بسهامهم وأجورهم .
وروى الحارث بن أسامة ، عن والحاكم ، جعفر بن محمد ، عن أبيه : أن رضي الله عنه ممن ضرب له بسهمه وأجره ، وضرب لأربعة عشر رجلا قتلوا جعفر بن أبي طالب ببدر ، وأحذى مماليك حضروا بدرا ولم يقسم لهم . [ ص: 63 ]
روى البزار عن والطبراني ، رضي الله عنهما قال : ابن عباس بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم عشرون رجلا من الموالي ، وتنفل صلى الله عليه وسلم سيفه ذا الفقار ، وقال لنبيه بن الحجاج وكان من صفي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخذ سهمه مع المسلمين ، وفيه جمل أبي جهل وكان مهريا . شهد
وبالصفراء توفي عبيدة بن الحارث رضي الله عنه من مصاب رجله ، فقالت هند بنت أثاثة بن عباد بن عبد المطلب ترثيه :
لقد ضمن الصفراء مجدا وسؤددا وحلما أصيلا وافر اللب والعقل عبيدة فابكيه لأضياف غربة
وأرملة تهوي لأشعث كالجذل وبكيه للأبرام في كل شنوة
إذا احمر آفاق السماء من المحل وبكيه للأيتام والريح زفزف
وتشبيب قدر طالما أزبدت تغلي فإن تصبح النيران قد مات ضوؤها
فقد كان يذكيهن بالحطب الجزل لطارق ليل أو لملتمس القرى
ومستنبح أضحى لديه على رسل
يا راكبا إن الأثيل مظنة من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ بها ميتا بأن تحية ما إن تزال بها النجائب تخفق
مني إليك وعبرة مسفوحة جادت بواكفها وأخرى تخفق
هل يسمعني النضر إن ناديته أم كيف يسمع ميت لا ينطق
أمحمد يا خير ضنء كريمة من قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق
أو كنت قابل فدية فلينفقن بأعز ما يغلو به ما ينفق
والنضر أقرب من أسرت قرابة وأحقهم إن كان عتق يعتق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هنالك تشقق
صبرا يقاد إلى المنية متعبا رسف المقيد وهو عان موثق
[ ص: 64 ] قال هذا لفظ أبو عمر : عبد الله بن إدريس ، وفي رواية فرق لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دمعت عيناه ، وقال الزبير بن بكار : «لو سمعت شعرها لم أقتل أباها» . لأبي بكر :
قال سمعت بعض أهل العلم يغمز هذه الأبيات ويقول إنها مصنوعة ، وذكر الزبير بن بكار : الجاحظ في آخر كتاب البيان أن اسمها ليلى ، وأنها جذبت رداء النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف ، وأنشدته الأبيات المذكورة .
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عرق الظبية أمر بقتل عقبة بن أبي معيط ، فقال : يا محمد من للصبية . قال : «النار» . فقال : أأقتل من بين قريش صبرا ؟ ! فقال حن قدح ليس منها ، فقتله عمر : عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري في قول وقال ابن إسحاق ، ابن هشام : قتله فالله أعلم . والذي أسره علي بن أبي طالب . عبد الله بن سلمة -بكسر اللام- وصدق الله تعالى ورسوله في قوله لعقبة : إن وجدتك خارج مكة ضربت عنقك صبرا .
وروى عن الطبراني قال : ابن عباس بدر ثلاثة صبرا : قتل النضر بن الحارث ، وطعيمة بن عدي ، وعقبة بن أبي معيط . قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله تعالى عليه ومن معه من المسلمين ، فقال لهم سلمة بن سلامة بن وقش : ما الذي تهنئوننا به ؟ فوالله إن لقينا به إلا عجائز صلعا كالبدن المعقلة فنحرناها ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : «أي ابن أخي ؟ أولئك الملأ ، لو رأيتهم لهبتهم ، ولو أمروك لأطعتهم ، ولو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرته ، وبئس القوم كانوا لنبيهم» .
قال ابن هشام : الملأ : الأشراف والرؤساء .
قال محمد بن عمر الأسلمي : ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المدينة قبل الأسارى بيوم مؤيدا منصورا قد خافه كل عدو له بالمدينة وحولها ، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة ، وحينئذ دخل عبد الله بن أبي ابن سلول في الإسلام ظاهرا ، وقالت اليهود : تيقنا أنه النبي الذي نجد نعته في التوراة .
ودخل صلى الله عليه وسلم من ثنية الوداع . قال في الإمتاع : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة رجوعه من بدر يوم الأربعاء الثاني والعشرين من رمضان ، وتلقاه الولائد بالدفوف وهن يقلن :
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
ويرحم الله الإمام العلامة ابن جابر حيث قال :
بدا يوم بدر وهو كالبدر حوله كواكب في أفق المواكب تنجلي
[ ص: 65 ] وجبريل في جند الملائك دونه فلم تغن أعداد العدو المخذل
رمى بالحصى في أوجه القوم رمية فشردهم مثل النعام المجفل
وجاد لهم بالمشرفي فسلموا فجاد له بالنفس كل مجندل
عبيدة سل عنهم وحمزة واستمع حديثهم في ذلك اليوم من علي
هم غيبوا بالسيف عتبة إذ غدا فذاق الوليد الموت ليس له ولي
وشيبة لما شاب خوفا تبادرت إليه العوالي بالخضاب المعجل
وجار أبو جهل فحقق جهله غداة تردى بالردى عن تذلل
فأضحى قليبا في القليب وقومه يؤمونه فيها إلى شر منهل
وجاءهم خير الأنام موبخا ففتح من أسماعهم كل مقفل
وأخبر ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يهتدون لمقول
سلا عنهم يوم السلا إذ تضاحكوا فعاد بكاء عاجلا لعم يؤجل
ألم يعلموا علم اليقين بصدقه ولكنهم لا يرجعون لمعقل
فيا خير خلق الله جاهك ملجئي وحبك ذخري في الحساب وموئلي
عليك صلاة يشمل الآل عرفها وأصحابك الأخيار أهل التفضل