الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الثالث عشر : اختلف في سبب نزول قوله تعالى : ليس لك من الأمر شيء [آل عمران 128 ] فروى ابن أبي شيبة والإمام أحمد والشيخان عن أنس رضي الله عنه ، وابن جرير ، عن قتادة ، وعبد الله بن حميد عن الحسن ، وابن جرير عن الربيع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد ، وشج وجهه حتى سال الدم على وجهه ، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم فقال : «كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم ، وهو يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى الشيطان ، ويدعوهم إلى الهدى ويدعونه إلى الضلالة ، ويدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار » فهم أن يدعو عليهم ، فنزلت ، فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء عليهم .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 246 ] وروى الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم أحد : «اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن سهيل بن عمرو ، اللهم العن صفوان بن أمية » ، فنزلت فتيب عليهم كلهم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الشيخان وابن جرير ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد ، أو يدعو لأحد ، قنت بعد الركوع : «اللهم انج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف » ، يجهر بذلك . وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر : «اللهم العن فلانا » ، لأحياء من العرب ، حتى أنزل الله تعالى ليس لك من الأمر شيء الآية . وفي لفظ : «اللهم العن بني لحيان ورعلا وذكوان وعصية ، عصت الله ورسوله » ، ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن إسحاق والنحاس في ناسخه ، عن سالم بن عبد الله ، قال : جاء رجل من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنك تنهى عن السب ، ثم تحول فحول قفاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكشف عن استه ، فلعنه ودعا عليه ، فنزلت ثم أسلم الرجل ، فحسن إسلامه .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : حديث أنس وحديث ابن عمر سيان لنزول الآية ، ويحتمل أن تكون نزلت في الأمرين جميعا ، فإنهما كانا في وقعة واحدة ، والرواية الثانية عن أبي هريرة إن كانت محفوظة احتمل أن يكون نزول الآية تراخى عن وقعة أحد ، لأن قصة رعل وذكوان كانت بعد أحد ، والصواب أنها نزلت في شأن الذين دعا عليهم . بسبب قصة أحد ، والله أعلم . ويؤيد ذلك قوله في صدر الآية : ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم [آل عمران 127 ] أي يخزيهم ثم قال : أو يتوب عليهم أي فيسلموا أو يعذبهم أي إن ماتوا كفارا .

                                                                                                                                                                                                                              الرابع عشر : في مداواته صلى الله عليه وسلم جرحه إشارة إلى جواز التداوي ، وأن الأنبياء صلى الله عليه وسلم قد يصابون ببعض العوارض الدنيوية من الجراحات والآلام والأسقام ، ليعظم لهم بذلك الأجر ، وتزداد درجاتهم ، وليتأسى بهم أتباعهم في الصبر على المكاره ، والعاقبة للمتقين .

                                                                                                                                                                                                                              الخامس عشر : قال العلماء : النعاس في القتال أمنة ، وفي الصلاة من الشيطان ، وذلك لأنه في القتال لا يكون إلا من الوثوق بالله تعالى والفراغ من الدنيا ، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله تعالى ، ثم ذلك النعاس كان فيه فوائد ، لأن السهر يوجب الضعف والكلال ، والنوم يفيد عود القوة والنشاط ، ولأن المشركين كانوا في غاية الحرص على قتلهم ، [ ص: 247 ] فبقاؤهم في النوم مع السلامة في تلك المعركة من أدل الدلائل على حفظ الله تعالى لهم ، ذلك مما يزيل الخوف من قلوبهم ، ويورثهم الأمن ، ولأنهم لو شاهدوا قتل إخوانهم الذين أراد الله تعالى إكرامهم بالشهادة لاشتد خوفهم .

                                                                                                                                                                                                                              السادس عشر : قوله : ونهى عن المثلة ، قيل : فقد مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وتركهم بالحرة ، وأجيب عن ذلك بأمرين : أحدهما : أنه فعل ذلك بهم قصاصا ، لأنهم قطعوا أيدي الرعاء وأرجلهم ، وسملوا أعينهم ، كما ذكر أنس ، كما سيأتي ذلك في أبواب أحكامه صلى الله عليه وسلم في الحدود . ثانيهما : أن ذلك كان قبل تحريم المثلة .

                                                                                                                                                                                                                              السابع عشر : وقع في رواية أبي الوقت والأصيلي من رواة البخاري في باب غزوة أحد من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : «هذا جبريل آخذ برأس فرسه [عليه أداة الحرب ] » . قال الحافظ : وهو وهم من وجهين : أحدهما : أن هذا الحديث تقدم سنده ومتنه في باب شهود الملائكة بدرا ، ولهذا لم يذكره هنا أبو ذر ولا غيره من متقني رواة البخاري ، ولا استخرجه الإسماعيلي ولا أبو نعيم . الثاني : أن المعروف في هذا المتن يوم بدر لا يوم أحد .

                                                                                                                                                                                                                              الثامن عشر : قول عبد الرحمن بن عوف : قتل مصعب بن عمير هو خير مني . لعله قاله تواضعا ، ويحتمل أن يكون ما استقر عليه الأمر من تفضيل العشرة على غيرهم ، بالنظر إلى من لم يقتل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد وقع من أبي بكر الصديق رضي الله عنه نظير ذلك ، كما تقدم في قتل سعد بن الربيع .

                                                                                                                                                                                                                              التاسع عشر : قول أنس بن النضر : إني لأجد ريح الجنة دون أحد ، يحتمل أن يكون ذلك على الحقيقة بأن يكون شم رائحة طيبة زائدة على ما يعهده ، فعرف أنها الجنة ، ويحتمل أن يكون أطلق ذلك باعتبار ما عنده من اليقين ، حتى كأن الغائب عنه صار محسوسا عنده ، والمعنى أن الموضع الذي قاتل فيه يؤول بصاحبه إلى الجنة .

                                                                                                                                                                                                                              العشرون : روى ابن إسحاق عمن لا يتهم عن مقسم عن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة فسجي ببردة ، ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ، ثم أتي بالقتلى فوضعوا إلى حمزة فصلى عليهم وعليه معهم ثنتين وسبعين صلاة .

                                                                                                                                                                                                                              قال السهيلي : هذا حديث ضعيف لضعف الحسن بن عمارة الذي أبهمه ابن إسحاق ، وإن كان غيره فهو مجهول ، ولم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى على شهيد في شيء من مغازيه إلا في هذه الرواية ، في غزوة أحد ، وكذلك لم يصل أحد من الأئمة بعده .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد من طريق عطاء بن السائب ، عن الشعبي ، عن ابن مسعود ، نحو رواية ابن عباس ، قال في البداية : سنده ضعيف من جهة عطاء بن السائب ، ويرده ما رواه الستة : إلا مسلما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين [ ص: 248 ] من قتلى أحد ، ثم يقول : «أيهم أكثر أخذا للقرآن ؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد ، وقال : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة ، وأمر بدفنهم ، ولم يصل عليهم ، ولم يغسلوا » ولا يخالف هذا ما رواه الشيخان ، وأبو داود والنسائي ، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين صلاته على الميت كالمودع للأحياء والأموات . لأن المراد بالصلاة هنا الدعاء ، وقوله : صلاته على الميت المراد به كدعائه للميت من غير نية ولا تكبير .

                                                                                                                                                                                                                              قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد ، وما روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح ، وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحي على نفسه ، قال : وأما حديث عقبة بن عامر فقد وقع في نفس الحديث أن ذلك كان بعد ثمان سنين ، يعني والمخالف يقول : لا يصلى على القبر إذا طالت المدة ، قال : وكان صلى الله عليه وسلم دعا لهم واستغفر لهم ، حين علم قرب أجله توديعا لهم بذلك ، ولا يدل ذلك على نسخ هذا الحكم الثابت .

                                                                                                                                                                                                                              الحادي والعشرون : اختلف في عدة من ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فروى البخاري وأبو نعيم ، والإسماعيلي واللفظ له ، عن معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه قال : سمعت أبا عثمان يعني النهدي يقول : لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام - وفي رواية : التي يقاتل فيهن - غير طلحة وسعد ، قال سليمان : فقلت لأبي عثمان : وما علمك بذلك ؟ قال : عن حديثهما ، يعني أن سعدا وطلحة أخبرا أبا عثمان بذلك .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : وهذا قد يعكر عليه ما ورد أن المقداد كان ممن بقي معه ، كما تقدم في القصة في حديث سعد ، لكن يحتمل أن المقداد إنما حضر بعد الجولة ، ويحتمل أن يكون انفرادهما معه في بعض المقامات ، وقد روى مسلم من طريق ثابت ، عن أنس قال : أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد في سبعة ورجلين من قريش ، وكان المراد بالرجلين طلحة وسعد ، وكان المراد بالحصر المذكور تخصيصه بالمهاجرين ، كأنه قال : لم يبق معه من المهاجرين غير هذين ، ويتعين حمله على ما أولته ، وأن ذلك باعتبار اختلاف الأحوال ، وأنهم تفرقوا في القتال ، فلما وقعت الهزيمة فيمن انهزم وصاح الشيطان : «قتل محمد » ، اشتغل كل واحد بهمه والذب على نفسه ، كما في حديث سعد ، ثم عرفوا عن قرب ببقائه فتراجعوا إليه أولا فأولا ، ثم بعد ذلك كان يندبهم إلى القتال فيشتغلون به .

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 249 ] وفي حديث الزبير عن ابن إسحاق بإسناد حسن قال : مال الرماة يوم أحد يريدون النهب ، فأتينا من ورائنا وصرخ صارخ : «ألا إن محمدا قد قتل » ، فانكفأنا راجعين .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن عائذ عن المطلب بن عبد الله بن خطب مرسلا : أن الصحابة رضي الله عنهم تفرقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى بقي في اثني عشر رجلا من الأنصار .

                                                                                                                                                                                                                              وللنسائي والبيهقي في الدلائل ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : تفرق الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار وطلحة . وإسناده جيد وهو كحديث أنس إلا أن فيه زيادة أربعة ، فلعلهم جاءوا بعد ذلك . وعند محمد بن سعد : أنه ثبت معه أربعة عشر رجلا : سبعة من المهاجرين ، منهم أبو بكر . ويجمع بينه وبين حديث أبي عثمان بأن سعدا جاءهم بعد ذلك كما حديثه في القصة ، وأن المذكورين من الأنصار استشهدوا ، كما في حديث أنس عند مسلم : فلم يبق غير سعد وطلحة . ثم جاء من بعدهم . وأما المقداد فيحتمل أن يكون استمر مستقلا بالقتال . وذكر الواقدي أن جماعة غير من ذكر ثبتوا كما ذكرته في القصة ، فإن ثبت حمل على أنهم ثبتوا فيمن حضر عنده في الجملة ، وما تقدم فيمن حضر عنده صلى الله عليه وسلم ، أولا فأولا .

                                                                                                                                                                                                                              وقال الحافظ في موضع آخر : صار الصحابة عند ترك الرماة مواقعهم وقول الشيطان : «قتل محمد » ثلاث فرق : فرقة استمروا في الهزيمة إلى قرب المدينة ، فما رجعوا حتى فرغ القتال ، وهم قليل ، وهم الذين نزل فيهم : إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان [آل عمران 155 ] وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا ذلك ، فصارت غاية الواحد منهم أن يذب عن نفسه ، أو يستمر على بصيرته في القتال إلى أن يقتل ، وهم أكثر الصحابة ، وفرقة ثبتت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تراجع إليه القسم الثاني شيئا فشيئا لما عرفوا أنه حي ، وبهذا يجمع بين مختلف الأخبار في عدة من بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني والعشرون : وقع في الهدى أن الفرسان من المسلمين يوم أحد كانوا خمسين رجلا ، وهو سبق قلم ، وإنما هذا عدد الرماة ، وقد جزم موسى بن عقبة بأن المسلمين لم يكن معهم شيء من الخيل . وذكر الواقدي أنه كان معهم فرسان : فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفرس لأبي بردة .

                                                                                                                                                                                                                              الثالث والعشرون : اختلف في عدد المسلمين يومئذ ، فقال الجمهور : منهم ابن شهاب في رواية : كان المشركون ثلاثة آلاف والمسلمون بعد انخذال ابن أبي سبعمائة . وروى البيهقي عن ابن شهاب في رواية أخرى قال : كان المسلمون قريبا من أربعمائة رجل . قال البيهقي : وقول ابن شهاب الأول أشبه بما رواه موسى بن عقبة ، وأشهر عند أهل المغازي .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية