الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر نقض بني قريظة العهد الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                                              لما نزل المشركون فيما ذكر ، خرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم ، وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه ، وعاهده على ذلك ، فلما سمع كعب بحيي أغلق دونه باب حصنه ، فاستأذن عليه ، فأبى أن يفتح له ، فناداه حيي : ويحك يا كعب ! افتح ، قال : ويحك يا حيي ! إنك امرؤ مشؤوم ، وإني قد عاهدت محمدا ، فلست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلا صدقا ووفاء . قال : ويحك ! افتح لي أكلمك ، قال : والله ما أنا بفاعل ، قال : والله ، إن أغلقت دوني إلا خوفا على جشيشتك أن آكل معك منها . فأحفظ الرجل ، ففتح له ، فقال : ويحك يا كعب ! جئتك بعز الدهر ، وبحر طام ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة ، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد ، قد عاقدوني وعاهدوني على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه . قال له كعب : جئتني والله بذل الدهر وبجهام قد أهرق ماؤه ، فهو يرعد ويبرق ، وليس فيه شيء ، ويحك يا حيي ! خلني وما أنا عليه ، فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء . فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمح له على أن أعطاه عهدا وميثاقا : لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك ، فنقض كعب بن أسد عهده وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              ووعظهم عمرو بن سعدى وخوفهم سوء فعالهم ، وذكرهم ميثاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ، وقال لهم : إذا لم تنصروه فاتركوه وعدوه ، فأبوا .

                                                                                                                                                                                                                              وخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني قريظة بنو سعنة : أسد وأسيد وثعلبة فكانوا معه ، وأسلموا . [ ص: 374 ]

                                                                                                                                                                                                                              وأمر كعب بن أسد حيي بن أخطب أن يأخذ لهم من قريش وغطفان رهائن تكون عندهم . فبلغ عمر بن الخطاب خبر نقض بني قريظة العهد ، فأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم ، فبعث سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة وهما سيدا قومهما ، ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير- زاد محمد بن عمر : وأسيد بن حضير- فقال : انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا ، فإن كان حقا فالحنوا إلي لحنا أعرفه ولا تفتوا في أعضاد الناس ، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس .

                                                                                                                                                                                                                              فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم قد نقضوا العهد ، فناشدوهم الله والعهد الذي كان بينهم أن يرجعوا إلى ما كانوا عليه قبل ذلك ، قبل أن يلتحم الأمر ، ولا يطيعوا حيي بن أخطب ، فقال كعب : لا نرده أبدا ، قد قطعته كما قطعت هذا القبال- لقبال نعله- وقال : من رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) ؟ لا عهد بيننا وبينه . فشاتمهم سعد بن عبادة ، كما قال ابن عقبة ومحمد بن عمر وابن عائذ وابن سعد - وقال ابن إسحاق : إنه سعد بن معاذ- وشاتموه وكان رجلا فيه حدة ، فقال له سعد بن معاذ- أو سعد بن عبادة إن كان الأول سعد بن معاذ- : دع عنك مشاتمتهم ، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة . وقال أسيد بن حضير لكعب : أتسب سيدك يا عدو الله ما أنت له بكفء يا ابن اليهودية ، ولتولين قريش إن شاء الله منهزمين ، وتتركك في عقر دارك فنسير إليك ، فننزلك من جحرك هذا على حكمنا . ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال سعد بن عبادة : عضل والقارة ، يعني كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع . وسكت الباقون ، ثم جلسوا .

                                                                                                                                                                                                                              فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبشروا يا معشر المؤمنين بنصر الله تعالى وعونه ، إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وآخذ المفتاح ، وليهلكن كسرى وقيصر ولتنفقن أموالهم في سبيل الله .

                                                                                                                                                                                                                              يقول ذلك حين رأى ما بالمسلمين من الكرب . قال ابن عقبة :

                                                                                                                                                                                                                              ثم تقنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه حين جاءه الخبر عن بني قريظة ، فاضطجع ومكث طويلا ، وانتهى الخبر إلى المسلمين بنقض بني قريظة العهد ، فاشتد الخوف وعظم البلاء ، وخيف على الذراري والنساء ، وكانوا كما قال الله تعالى : إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر [الأحزاب 10] .

                                                                                                                                                                                                                              ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قبالة عدوهم ، لا يستطيعون الزوال عن مكانهم ، يعتقبون خندقهم يحرسونه .

                                                                                                                                                                                                                              ونجم النفاق من بعض المنافقين ، فقال معتب بن قشير : كان محمد يعدنا أن نأخذ كنوز كسرى وقيصر وأن أموالهما تنفق في سبيل الله ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا [الأحزاب 12] وقال رجال ممن معه :

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 375 ] يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا [الأحزاب 13] وهمت بنو قريظة بالإغارة على المدينة ليلا ، فبلغ ذلك المسلمين ، فعظم الخطب ، واشتد البلاء ، ثم كفهم الله تعالى عن ذلك لما بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل سلمة بن أسلم بن حريش الأشهلي في مائتي رجل ، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة يحرسون المدينة ، ويظهرون التكبير ، فإذا أصبحوا أمنوا .

                                                                                                                                                                                                                              واجتمعت جماعة من بني حارثة فبعثوا أوس بن قيظي- بالتحتية والظاء المعجمة المشالة- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إن بيوتنا عورة ، وليس دار من دور الأنصار مثل دورنا ، ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا ، فأذن لنا فلنرجع إلى دورنا ، فنمنع ذرارينا ونساءنا فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفرحوا بذلك وتهيئوا للانصراف .

                                                                                                                                                                                                                              قال محمد بن عمر : فبلغ سعد بن معاذ ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : لا تأذن لهم ، إنا والله ما أصابنا وإياهم شدة قط إلا صنعوا هكذا ، ثم أقبل عليهم فقال : يا بني حارثة ، هذا لنا منكم أبدا ، ما أصابنا وإياكم شدة إلا صنعتم هكذا . فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              وكان المسلمون يتناوبون حراسة نبيهم ، وكانوا في قر شديد وجوع ، وكان ليلهم نهارا .

                                                                                                                                                                                                                              روى محمد بن عمر عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يختلف إلى ثلمة في الخندق يحرسها ، حتى إذا آذاه البرد جاءني فأدفأته في حضني ، فإذا دفئ خرج إلى تلك الثلمة ، ويقول : «ما أخشى أن يؤتى الناس إلا منها» فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في حضني قد دفئ وهو يقول : ليت رجلا صالحا يحرس هذه الثلمة الليلة ، فسمع صوت السلاح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من هذا ؟ » فقال سعد بن أبي وقاص : سعد يا رسول الله ، فقال : «عليك هذه الثلمة فاحرسها» .

                                                                                                                                                                                                                              قالت : فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى سمعت غطيطه
                                                                                                                                                                                                                              .

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن سعد : وكان عباد بن بشر ، والزبير بن العوام ، على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى محمد بن عمر عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في الخندق ، وكنا في قر شديد ، فإني لأنظر إليه ليلة قام فصلى ما شاء الله أن يصلي في قبته ، ثم خرج فنظر ساعة فأسمعه يقول : «هذه خيل المشركين تطيق بالخندق» ، ثم نادى عباد بن بشر ، فقال عباد : لبيك ! قال : «أمعك أحد ؟ » قال : نعم ، أنا في نفر من أصحابي حول قبتك .

                                                                                                                                                                                                                              قال : «انطلق في أصحابك فأطف بالخندق ، فهذه خيل المشركين تطيف بكم ، يطمعون أن يصيبوا منكم غرة ، اللهم فادفع عنا شرهم ، وانصرنا عليهم ، واغلبهم ، فلا يغلبهم أحد غيرك» .


                                                                                                                                                                                                                              فخرج عباد في أصحابه فإذا هو بأبي سفيان بن حرب في خيل المشركين يطوفون بمضيق من الخندق ، وقد نذر بهم المسلمون فرموهم بالحجارة والنبل ، حتى أذلقهم المسلمون بالرمي . [ ص: 376 ]

                                                                                                                                                                                                                              فانكشفوا منهزمين إلى منازلهم ، قال عباد : ورجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدته يصلي فأخبرته . قالت أم سلمة : يرحم الله عباد بن بشر ، فإنه كان ألزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبته يحرسها أبدا . فلما أصبح المشركون ورأوا الخندق قالوا : إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تصنعها ، ولا تكيدها . وقال بعضهم : إن معه رجلا فارسيا فهو الذي أشار عليه به . قالوا : فمن هناك إذا ؟ ونادوا المسلمين ، وكان بينهم الرمي بالنبل والحجارة ، والخندق حاجز بين الفريقين .

                                                                                                                                                                                                                              وكان المشركون يتناوبون بينهم فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوما ، ويغدو خالد بن الوليد يوما ، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوما ، ويغدو ضرار بن الخطاب الفهري يوما ، فلا يزالون يجيلون خيلهم ، ويتفرقون مرة ، ويجتمعون أخرى ، ويناوشون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقدمون رماتهم .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية