وقال الموفق عبد اللطيف : (كان قد ملأ القلوب هيبة وخيفة، فكان يرهبه الناصر أهل الهند ومصر كما يرهبه أهل بغداد، فأحيا هيبة الخلافة، وكانت قد ماتت بموت ثم ماتت بموته. المعتصم،
وكان الملوك والأكابر بمصر والشام إذا جرى ذكره في خلواتهم خفضوا أصواتهم هيبة وإجلالا، وورد بغداد تاجر ومعه متاع دمياط المذهب، فسألوه عنه فأنكر، فأعطي علامات فيه; من عدده وألوانه وأصنافه، فازداد إنكاره، فقيل له: من العلامات: أنك نقمت على مملوكك التركي فلان، فأخذته إلى سيف بحر دمياط خلوة، وقتلته ودفنته هناك ولم يشعر بذلك أحد!!)
[ ص: 689 ] وقال ابن النجار : (دانت السلاطين للناصر، ودخل تحت طاعته من كان من المخالفين، وذلت له العتاة والطغاة، وانقهرت بسيفه الجبابرة، واندحض أعداؤه، وكثر أنصاره، وفتح البلاد العديدة، وملك من الممالك ما لم يملكه أحد ممن تقدمه من الخلفاء والملوك، وخطب له ببلاد الأندلس وبلاد الصين، وكان أسد بني العباس، تتصدع لهيبته الجبال، وكان حسن الخلق، لطيف الخلق، كامل الظرف، فصيح اللسان، بليغ البيان، له التوقيعات المسددة، والكلمات المؤيدة، كانت أيامه غرة في وجه الدهر، ودرة في تاج الفخر).
وقال ابن واصل : شهما شجاعا، ذا فكرة صائبة وعقل رصين، الناصر ومكر ودهاء، وله أصحاب أخبار في (كان العراق وسائر الأطراف، يطالعونه بجزئيات الأمور، حتى ذكر أن رجلا ببغداد عمل دعوة وغسل يده قبل أضيافه، فطالع صاحب الخبر الناصر بذلك، فكتب في جواب ذلك: سوء أدب من صاحب الدار، وفضول من كاتب المطالعة).
قال: (وكان مع ذلك رديء السيرة في الرعية، مائلا إلى الظلم والعسف، ففارق أهل البلاد بلادهم، وأخذ أموالهم وأملاكهم، وكان يفعل أفعالا متضادة، وكان يتشيع ويميل إلى مذهب الإمامية، بخلاف آبائه، حتى إن سئل بحضرته: من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أفضلهم بعده: من كانت ابنته تحته، ولم يقدر أن يصرح بتفضيل ابن الجوزي أبي بكر).
وقال ابن الأثير : (كان سيئ السيرة، خربت في أيامه الناصر العراق مما أحدثه من الرسوم، وأخذ أموالهم وأملاكهم، وكان يفعل الشيء وضده، وكان يرمي بالبندق ويغوي الحمام).
وقال الموفق عبد اللطيف : (وفي وسط ولايته اشتغل برواية الحديث، واستناب نوابا في الإجازة عنه والتسميع، وأجرى عليهم جرايات، وكتب [ ص: 690 ] للملوك والعلماء إجازات، وجمع كتابا وسبعين حديثا، ووصل إلى حلب وسمعه الناس).
قال الذهبي : (أجاز لجماعة من الأعيان فحدثوا عنه; منهم: الناصر ابن سكينة، وابن الأخضر، وابن النجار، وابن الدامغاني، وآخرون).
قال أبو المظفر سبط الجوزي وغيره: (قل بصر الناصر في آخر عمره، وقيل: ذهب جله، ولم يشعر بذلك أحد من الرعية حتى الوزير وأهل الدار، وكان له جارية قد علمها الخط بنفسه، فكانت تكتب مثل خطه فتكتب على التواقيع).
وقال شمس الدين الجزري: (كان الماء الذي يشربه الناصر تأتي به الدواب من فوق بغداد بسبعة فراسخ، ويغلى سبع غلوات كل يوم غلوة، ثم يحبس في الأوعية سبعة أيام، ثم يشرب منه، وبعد هذا ما مات... حتى سقي المرقد مرات، وشق ذكره، وأخرج منه الحصى، ومات منه يوم الأحد، سلخ رمضان سنة اثنتين وعشرين وستمائة).
ومن لطائفه: أن خادما له اسمه يمن كتب إليه ورقة فيها عتب، فوقع فيها:
بمن يمن يمن ثمن يمن ثمن
ولما تولى الخلافة.. بعث إلى السلطان صلاح الدين بالخلع والتقليد، وكتب إليه السلطان كتابا يقول فيه: (والخادم -ولله الحمد- يعدد سوابق في الإسلام والدولة العباسية لا يعدها أولية أبي مسلم; لأنه والى ثم وارى، ولا آخرية طغرلبك; لأنه نصر ثم حجر، والخادم خلع من كان ينازع الخلافة رداءها، [ ص: 691 ] وأساغ الغصة التي ذخر الله للإساغة في سيفه ماءها، فرجل الأسماء الكاذبة الراكبة على المنابر، وأعز بتأييد إبراهيمي، فكسر الأصنام الباطنة بسيفه الظاهر).