المسألة الرابعة : { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } : دليل على أنهم لا يقربون مسجدا سواه ; لأن العلة وهي النجاسة موجودة فيهم ، والحرمة موجودة في المسجد .
وقد اختلف الناس في هذا كثيرا ; فرأى أن هذا مخصوص الشافعي بالمسجد الحرام لا يتعداه إلى غيره من المساجد .
وهذا جمود منه على الظاهر الذي يسقط هذا الظاهر ، فإن الله لم يقل : لا يقرب هؤلاء المسجد الحرام ، فيكون الحكم مقصورا عليهم ولو قال : لا يقرب المشركون والأنجاس المسجد الحرام لكان تنبيها على التعليل بالشرك أو النجاسة ، أو العلتين جميعا ، بل أكد الحال بيان العلة وكشفها ، فقال : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام } : يريد ولا بد لنجاستهم ، فتعدت العلة إلى كل موضع محترم بالمسجدية .
ومما قاله مع غيره من الناس أن ، واستدل عليه بأن { الكافر يجوز له دخول المسجد بإذن المسلم ثمامة بن أثال في المسجد وهو مشرك } . قال علماؤنا : هذا الحديث صحيح النبي صلى الله عليه وسلم ربط
، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان علم إسلامه ، وهذا وإن سلمناه فلا يضرنا ; لأن علم النبي بإسلامه في المآل لا يحكم له به في الحال .
، وقال : العموم بمنع المشركين عن قربان جابر بن عبد الله المسجد الحرام مخصوص في العبد والأمة .
وهذا قول باطل ، وسند ضعيف لا يخص بمثله العمومات المطلقة ، فكيف المعللة بالعلة العامة المتناولة لجميعها ، وهي الشرك ؟ [ ص: 470 ] المسألة الخامسة : قال : هذا القول والحكم إنما هو في سعيد بن المسيب المسجد الحرام . فأما مسجد المدينة فلا يزيد فضلا على غيره ; إذ قد دخل أبو سفيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشرك عند إقباله لتجديد العهد قبل فتح مكة حين خشي نقض الصلح بما أحدثه بنو بكر على خزاعة .
قال القاضي : وهذا ضعيف ، ولو صح فإن الجواب عنه ظاهر ، وذلك أن دخول ثمامة في المسجد في الحديث الصحيح ، ودخول فيه على الحديث الآخر كان قبل أن ينزل قوله تعالى { أبي سفيان يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } ; فمنع الله المشركين من دخول المسجد الحرام نصا ، ومنع من دخول سائر المساجد تعليلا بالنجاسة ، ولوجوب صيانة المسجد عن كل نجس . وهذا كله ظاهر لا خفاء به .
المسألة السادسة : قال : الشافعي المسجد الحرام بحال ، ويدخل غيره من المساجد للحاجة ، كما دخل لا يدخل الكافر ثمامة . وأبو سفيان
وقال : يدخل المسجد لحاجة أو لغير حاجة ، وهذا كله ضعيف خطأ ، أما دخوله للحاجة فقد أفسدناه كما تقدم ، وأما دخولهم كذلك مطلقا فهو أبعد من تعليل أبو حنيفة وتدقيقه . أبي حنيفة
ولقد كنت أرى بدمشق عجبا ، كان لجامعها بابان : باب شرقي وهو باب جيرون ، وباب غربي ، وكان الناس يجعلونه طريقا يمشون عليها نهارهم كله في حوائجهم ، وكان الذمي إذا أراد المرور وقف على الباب حتى يمر به مسلم ، مجتاز ، [ ص: 471 ] فيقول له الذمي : يا مسلم ، أتأذن لي أن أمر معك ؟ فيقول : نعم ، فيدخل معه ، وعليه الغيار علامة أهل الذمة ، فإذا رآه القيم صاح به : ارجع ، ارجع ، فيقول له المسلم : أنا أذنت له فيتركه القيم .