الآية الرابعة عشرة قوله تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون } . فيها ست مسائل :
المسألة الأولى " قوله تعالى : " بالعدل " : وهو مع العالم ، وحقيقته التوسط بين طرفي النقيض ، وضده الجور ; وذلك أن الباري خلق العالم مختلفا متضادا متقابلا مزدوجا ، وجعل العدل في اطراد الأمور بين ذلك على أن يكون الأمر جاريا فيه على الوسط في كل معنى ، فالعدل بين العبد وربه [ ص: 154 ] إيثار حق الله على حظ نفسه ، وتقديم رضاه على هواه ، والاجتناب للزواجر ، والامتثال للأوامر .
وأما العدل بينه وبين نفسه فمنعها عما فيه هلاكها ، كما قال تعالى : { ونهى النفس عن الهوى } وعزوب الأطماع عن الاتباع ، ولزوم القناعة في كل حال ، ومعنى .
وأما العدل بينه وبين الخلق ففي بذل النصيحة ، وترك الخيانة فيما قل وكثر ، والإنصاف من نفسك لهم بكل وجه ، ولا يكون منك إلى أحد مساءة بقول ولا فعل ، لا في سر ولا في علن ، حتى بالهم والعزم ، والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى ، وأقل ذلك الإنصاف من نفسك وترك الأذى .
المسألة الثانية : الإحسان : وهو في العلم والعمل : فأما في العلم فبأن تعرف حدوث نفسك ونقصها ، ووجوب الأولية لخالقها وكماله . وأما الإحسان في العمل فالحسن ما أمر الله به ، حتى إن الطائر في سجنك ، والسنور في دارك ، لا ينبغي أن تقصر في تعهده ، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { } . أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها لا هي سقتها ولا أطعمتها ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض
ويقال : الإحسان ألا تترك لأحد حقا ، ولا تستوفي ما لك .
وقد { جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك } . وهذا إشارة إلى ما تعتقده قال الصوفية من مشاهدة الحق في كل حال ، واليقين بأنه مطلع عليك ; فليس من الأدب أن تعصي مولاك بحيث يراك . [ ص: 155 ]
المسألة الثالثة : قوله تعالى : { وإيتاء ذي القربى } : يعني : في صلة الرحم ، وإيفاء الحقوق ; كما قال : العدل أداء الفرائض . وكذلك يلزم إيتاء حقوق الخلق إليهم . ابن عباس
وإنما خص ذوي القربى ; لأن حقوقهم أوكد ، وصلتهم أوجب ، لتأكيد حق الرحم التي اشتق الله اسمها من اسمه ، وجعل صلتها من صلته .
المسألة الرابعة : الفحشاء : وذلك كل قبيح ، من قول أو فعل ، وغايته الزنا ; والمنكر ما أنكره الشرع بالنهي عنه ; والبغي هو الكبر والظلم والحسد والتعدي ، وحقيقته تجاوز الحد ، من بغى الجرح . فهذه ست مسائل .
وقد قال : هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل وشر يجتنب ، وأراد ما قال ابن مسعود : إنه ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به إلا أمر الله به ، ولا من خلق سيئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه ، وأن يريد الخير للخلق كلهم ; إن كان مؤمنا فيزداد إيمانا ، وإن كان كافرا فيتبدل إسلاما ، وموالاة الخلق بالبشر والسياسة . ولهذا يروى أن قتادة عيسى عرض له كلب أو خنزير فقال له : اذهب بسلام ، إشارة إلى ترك الإذاية حتى في الحيوانية المؤذية .