قوله تعالى : { إنه كان حليما غفورا تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } .
فيها مسألتان
المسألة الأولى : اختلف الناس في معنى هذه الآية على أقوال كثيرة ، أمهاتها ستة :
الأول : دلالتها على وحدانية الله وقدرته وعلمه وإرادته وسائر صفاته العلا و أسمائه الحسنى . الثاني : تذكرتها للتسبيح بها . الثالث : كل شيء له يسبح : لمح البرق ، وصريف الرعد ، وصرير الباب ، وخرير الماء . الرابع : قال قتادة والحسن : كل ذي روح يسبح . الخامس : قال النخعي وغيره : الطعام يسبح . السادس : قال أكثر الناس ، من قرأ القرآن والحديث : كل شيء يسبح تسبيحا لا يعلمه الآدميون .
المسألة الثانية : اعلموا نور الله بصائركم بعرفانه أن هذه مسألة كثر الخوض فيها بين الناس . وقد أوضحناها في كتاب المشكلين على مقتضى أدلة المعقول والمنقول ; وترتيب القول هاهنا أنه ليس يستحيل أن يكون للجمادات فضلا عن البهائم تسبيح بكلام ، وإن لم نفقهه نحن عنها ; إذ ليس من شرط قيام الكلام بالمحل عند أهل السنة هيئة آدمية ، ولا وجود بلة ولا رطوبة ، وإنما تكفي له الجوهرية أو الجسمية خلافا للفلاسفة وإخوتهم من القدرية الذين يرون الهيئة الآدمية والبلة والرطوبة شرطا في الكلام ، فإذا ثبت هذا الأصل بأدلته التي تقررت في موضعه ، وبأن كل عاقل يعلم أن الكلام في [ ص: 205 ] الآدميين عرض يخلقه الله فيهم ، وليس يفتقر العرض إلا لوجود جوهر أو جسم يقوم به خاصة ، وما زاد على ذلك من الشروط فإنما هي عادة ، وللباري تعالى نقض العادة وخرقها بما شاء من قدرته لمن شاء من مخلوقاته وبريته .
ولهذا حن الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسبح الحصى في كفه وكف أصحابه ، وكان بمكة حجر يسلم عليه قبل أن يبعث ، وكانت الصحابة تسمع تسبيح الطعام ببركته صلى الله عليه وسلم ولم يكن لذلك كله هيئة ، ولا وجدت له رطوبة ولا بلة ، وعلى إنكار هذه المعجزات وإبطال هذه الآيات حامت بما ابتدعته من المقالات ، فيعلم كل أحد أن دلالة المخلوقات على الخالق ظاهرة ، وتذكرته للمؤمنين من الآدميين والمسبحين من المخلوقين بينة . وهذا وإن سمي تسبيحا فذلك شائع لغة ، كما كانت العرب تعبر عن لسان الحال بلسان المقال ، فتقول : يشكو إلي جملي طول السرى . وكما قالت : قف بالديار فقل : يا ديار من غرس أشجارك ، وجنى ثمارك ، وأجرى أنهارك ، فإن لم تجبك جؤارا أجابتك اعتبارا ; وكما قال شاعرهم عن شجرة :
رب ركب قد أناخوا حولنا يشربون الخمر بالماء الزلال سكت الدهر زمانا عنهم
وكذاك الدهر حالا بعد حال
وإن قلنا : إن تسبيح البرق لمعانه ، والرعد هديره ، والماء خريره ، والباب صريره ، فنوع من الدلالة ، ووجه من التسمية بالمجاز ظاهر .
وإن قلنا : إن كل ذي روح يسبح بنفسه وصورته ، فمثله في الدلالة وفي المجاز في التسمية .
وإن قلنا : إن الطعام يسبح التحق بالجماد في المعنى والعبارة عنه كما تقدم .
وإن قلنا : إن لكل شيء تسبيحا ربنا به أعلم ، لا نعلمه نحن ; أخذا بظاهر القرآن لم نكذب ، ولم نغلط ، ولا ركبنا محالا في العقل ; ونقول : إنها تسبح دلالة وتذكرة وهيئة ومقالة ، ونحن لا نفقه ذلك كله ، ولا نعلم ، إنما يعلمه من خلقه ، كما قال : { ألا يعلم من خلق } . وقد مهدنا القول في ذلك في شرح الحديث عند قوله : { } هل هو بكلام ، أو على تقدير قوله : امتلأ الحوض وقال قطني والكل جاء من عندنا ، وربنا عليه قادر . شكت النار إلى [ ص: 206 ] ربها فقالت : يا رب ، أكل بعضي بعضا
وأكمل التسبيح تسبيح الملائكة والآدميين والجن فإنه تسبيح مقطوع بأنه كلام معقول ، مفهوم للجميع بعبارة مخلصة ، وطاعة مسلمة ، وأجلها ما اقترن بالقول فيها فعل من ركوع أو سجود أو مجموعهما ، وهي صلاة الآدميين ; وذلك غاية التسبيح وبه سميت الصلاة سبحة .
فإن قيل : فما معنى قوله : { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } : قلنا : أما الكفار المنكرون للصانع فلا يفقهون من وجوه التسبيح في المخلوقات شيئا كالفلاسفة ، فإنهم جهلوا دلالتها على الصانع ، فهم لما وراء ذلك أجهل . وأما من عرف الدلالة وفاته ما وراءها فهو يفقه وجها ويخفى عليه آخر ، فتكون الآية على العموم في حق الفلاسفة ، وتكون على الخصوص فيما وراءهم ، ممن أدرك شيئا من تسبيحهم ; لذلك قال تعالى : { ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال } فجعل تصريف الظل ذلا ، وعبر عنه بالسجود ، وهي غاية المذلة لمن له بالحقيقة وحده العزة ، وهذا توقيف نفيس للمعرفة ; فإذا انتهيتم إليه عارفين بما تقدم من بياننا فقفوا عنده ، فليس وراءه مزيد ، إلا في تفصيل الإيمان والتوحيد ; وذلك مبين في كتب الأصول ، والله أعلم .