[ ص: 560 ] المسألة الثانية عشرة : 
وهي مقصود الباب وتحقيقه في بيان الكتاب ، وذلك أن العلماء اختلفوا في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه  على قولين : 
الأول : كان النبي صلى الله عليه وسلم خير أزواجه بإذن الله في البقاء على الزوجية ، أو الطلاق . 
فاخترن البقاء معه ، قالته عائشة  ،  ومجاهد  ، وعكرمة  ، والشعبي  ، وابن شهاب  ،  وربيعة    . 
ومنهم من قال : إنه كان التخيير بين الدنيا فيفارقهن ، وبين الآخرة فيمسكهن ، ولم يخيرهن في الطلاق ، ذكره الحسن   وقتادة  ، ومن الصحابة  علي    . 
وقال ابن عبد الحكم    : معنى خيرهن قرأ عليهن الآية ، ولا يجوز أن يقول ذلك بلفظ التخيير ; فإن التخيير إذا قبل ثلاث ، والله أمره أن يطلق النساء لعدتهن ، وقد قال : { سراحا جميلا    } والثلاث ليس مما يجمل ; وإنما السراح الجميل واحدة ليس الثلاث التي يوجبهن قبول التخيير . 
قال القاضي  رضي الله عنه : أما عائشة  فلم يثبت ذلك عنها قط ، إنما المروي عنها أن  مسروقا  سألها عن الرجل يخير زوجته فتختاره ، أيكون طلاقا  ؟ فإن الصحابة اختلفوا فيه . 
فقالت عائشة    : خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه ، أكان ذلك طلاقا ؟ خرجه الأئمة وروي ، فلم يكن شيئا ، فلا وجدوا لفظ ( خير ) في حديث  عائشة  ، وقولها : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير نسائه بدأ بي ، فقال : إني ذاكر لك أمرا : إن الله تعالى قال : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن    } . وليس في هذا تخيير بطلاق كما زعموا ، وإنما يرجع الأول إلى أحد وجهين : التخيير بين الدنيا ، فيوقع الطلاق ; وبين الآخرة فيكون الإمساك ، ولهذا يرجع قولهم إلى آية التخيير ، وقولها ، خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، أو أمر بتخيير نسائه ، فإنما يعود ذلك كله إلى هذا التفسير من التخيير . والذي يدل عليه أنه قد سمى كما تقدم آية التخيير : { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن    } .  [ ص: 561 ] وليس للتخيير فيها ذكر لفظي ، ولكن لما كان فيها معنى التخيير نسبها إلى المعنى . 
الثاني : أن ابن عبد الحكم  قد قال : إن معنى خيرهن قرأ عليهن آية التخيير ; وقوله : إنه لا يجوز أن يخيرهن بلفظ التخيير صحيح . 
والدليل عليه نص الآية ; فإن التخيير فيها إنما وقع بين الآخرة ، فيكون التمسك ; وبين الدنيا ، فيكون الفراق ; وهو ظاهر من نص الآية ، وليس يدل عليه ما قال من أن التخيير ثلاث ، والله أمره بأن يطلق النساء لعدتهن ; فإن كون قبول الخيار ثلاثا إنما هو مذهبه ، ولا يصح لأحد أن يستدل على حكم بمذهب بقول يخالف فيه ; فإن  أبا حنيفة   وأحمد  يقولان : إنها واحدة في تفصيل ، وقوله : إن الله قال : سراحا جميلا . والثلاث مما لا يجمل خطأ ; بل هي مما يجمل ويحسن قال الله تعالى : { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان    } فسمى الثلاث تسريحا بإحسان . 
فإن قيل : إنما توصف بالإحسان إذا فرقت ; فأما إذا وقعت جملة فلا . 
قلنا : لا فرق بينهما ; فإن الثلاث فرقة انقطاع ، كما أن التخيير عندك فرقة انقطاع . وإنما المعنى السراح الجميل ، والسراح الحسن فرقة من غير ضرر ، كانت واحدة أو ثلاثا ، وليس في شيء مما ظنه هذا العالم . 
المسألة الثالثة عشرة : 
قال ابن القاسم  ،  وابن وهب    : قال  مالك    : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  لعائشة    : ابعثي إلى أبويك . فقالت : يا رسول الله ، لم ؟ فقال : إن الله أمرني أن أخيركن . فقالت : إني أختار الله ورسوله ، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك . فقالت له  عائشة    : يا رسول الله ; إن لي إليك حاجة ; لا تخير من نسائك من تحب أن تفارقني ، فخيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا ، فكلهن اخترنه   } . 
{ قالت عائشة    : خيرنا فاخترناه ، فلم يكن طلاقا   } .  [ ص: 562 ] وفي الصحيح { عن  عائشة    : لما نزلت : { وإن كنتن تردن الله ورسوله    } الآية دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدأ بي ، فقال : يا  عائشة    ; إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك . قالت : وقد علم والله أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه ، فقرأ علي : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما    } . فقلت : أوفي هذا أستأمر أبوي ، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة   } . 
هذه رواية  معمر  عن عروة  عن الزهري  عن  عائشة    . قال  معمر    : وقال أيوب    : قالت  عائشة    : يا رسول الله ، لا تخبر أزواجك أني اخترتك ; قال : { إن الله لم يبعثني متعنتا ، إنما بعثني مبلغا   } . 
وفي رواية : { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ على أزواجه الآية ويقول : قد اختارتني  عائشة  ، فاخترنه كلهن   } . 
المسألة الرابعة عشرة : روى  أنس بن مالك  قال : لما خيرهن اخترنه ، فقصره الله عليهن ، ونزلت : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج     } . 
وسيأتي بيان هذه الآية في موضعها إن شاء الله . 
				
						
						
