[ ص: 417 ] الآية السادسة قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح } فيها خمس عشرة مسألة :
المسألة الأولى : هنا الاختبار ، لتحصل معرفة ما غاب من علم العاقبة أو الباطن عن الطالب لذلك . الابتلاء
المسألة الثانية : قوله تعالى : { اليتامى } قد تقدم بيانه .
المسألة الثالثة : : وهو أن الضعيف العاجز عن النظر لنفسه ومصلحته لا يخلو أن يكون له أب يحوطه ، أو لا أب له ; فإن كان له أب فما عنده من غلبة الحنو وعظيم الشفقة يغني عن الوصية به والاهتبال بأمره . فأما الذي لا أب له فخص بالتنبيه على أمره لذلك والوصية به ، وإلا فكذلك يفعل الأب بولده الصغار أو الضعفاء فإنه يبتليهم ويختبر أحوالهم . في وجه تخصيص اليتامى
المسألة الرابعة : : وهو بوجهين : أحدهما : يتأمل أخلاق يتيمه ، ويستمع إلى أغراضه ، فيحصل له العلم بنجابته [ ص: 418 ] والمعرفة بالسعي في مصالحه ، وضبط ماله ، أو الإهمال لذلك ; فإذا توسم الخير قال علماؤنا : لا بأس أن يدفع إليه شيئا من ماله ، وهو الثاني ، ويكون يسيرا ، ويبيح له التصرف فيه ; فإن نماه وأحسن النظر فيه فقد وقع الاختيار ، فليسلم إليه ماله جميعه ، وإن أساء النظر فيه وجب عليه إمساك ماله عنه . في كيفية الابتلاء
المسألة الخامسة : قوله تعالى : { حتى إذا بلغوا النكاح } يعني : القدرة على الوطء ، وذلك في الذكور بالاحتلام ، فإن عدم فالسن ، وذلك خمس عشرة سنة في رواية ، وثماني عشرة في أخرى . وقد ثبت في الصحيح { في ابن عمر أحد ابن أربع عشرة سنة ، وجوزه في الخندق ابن خمس عشرة سنة } ، وقضى بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ، واختاره عمر بن عبد العزيز وغيره . الشافعي
قال علماؤنا : إنما كان ذلك نظرا إلى إطاقة القتال لا إلى الاحتلام ، فإن لم يكن هذا دليلا فكل عدد من السنين يذكر فإنه دعوى ، والسن التي اعتبرها النبي عليه السلام أولى من سن لم يعتبرها ، ولا قام في الشرع دليل عليها . وكذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الإنبات في بني قريظة ; فمن عذيري ممن يترك أمرين اعتبرهما النبي صلى الله عليه وسلم فيتأوله ويعتبر ما لم يعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظا ، ولا جعل له في الشريعة نظرا . وأما الإناث فلا بد في شرط اختيارهن من وجود نفس الوطء عند علمائنا ، وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد .
وقال الشافعي : وأبو حنيفة واحد ، وهو البلوغ إلى القدرة على النكاح ; والحكمة في الفرق بينهما حسبما رآه وجه اختيار الرشد في الذكور والإناث قد قررناها في مسائل الخلاف ; نكتته أن الذكر بتصرفه وملاقاته للناس من أول نشأته إلى بلوغه يحصل به الاختبار ، ويكمل عقله بالبلوغ فيحصل له الغرض . [ ص: 419 ] مالك
وأما المرأة فبكونها محجوبة لا تعاني الأمور ، ولا تخالط ، ولا تبرز لأجل حياء البكارة وقف فيها على وجود النكاح ، فبه تفهم المقاصد كلها . قال : إذا احتلم الغلام ذهب حيث شاء إلا أن يخاف عليه فيقتصر حتى يؤمن أمره ، ولأبيه تجديد الحجر عليه إن رأى خللا منه . مالك
وأما الأنثى فلا بد بعد دخول زوجها من مضي مدة من الزمان عليها تمارس فيها الأحوال ، وليس في تحديد المدة دليل .
وذكر علماؤنا في تحديده أقوالا عديدة ; منها الخمسة الأعوام والستة والسبعة في ذات الأب ، وجعلوه في اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي عليها عاما واحدا بعد الدخول ، وجعلوه في المولى عليها مؤبدا حتى يثبت رشدها .
وتحديد الأعوام في ذات الأب عسير ، وأعسر منه تحديد العام في اليتيمة ، وأما تمادي الحجر في المولى عليها حتى يتبين رشدها فيخرجها الوصي منه أو يخرجها الحكم منه فهو ظاهر القرآن ، وأما سكوت الأب عن ابنته فدليل على إمضائه لفعلها ، فتخرج دون حكم بمرور مدة من الزمان يحصل فيه الاختبار ; وتقديره موكول إلى اجتهاد الولي ، وفي ذلك تفصيل طويل ، واختلاف كثير موضعه كتب المسائل . والمقصود منه أن ذلك كله دخل تحت قوله سبحانه : { فإن آنستم منهم رشدا } فتعين اعتبار إيناس الرشد ; ولكن يختلف إيناسه بحسب اختلاف حال الراشد فاعرفه ، وركبه عليه ، واجتنب التحكم الذي لا دليل عليه .