الآية العاشرة قوله قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما } اعلموا علمكم الله أن هذه الآية ركن من أركان الدين ، وعمدة من عمد [ ص: 430 ] الأحكام ، وأم من أمهات الآيات : فإن الفرائض عظيمة القدر حتى إنها ثلث العلم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : { } . العلم ثلاث : آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة
وكان جل علم الصحابة وعظم مناظرتهم ، ولكن الخلق ضيعوه ، وانتقلوا منه إلى الإجارات والسلم والبيوع الفاسدة والتدليس ، إما لدين ناقص ، أو علم قاصر ، أو غرض في طلب الدنيا ظاهر { وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون } ولو لم يكن من والكلام عليها إلا أنها تبهت منكري القياس وتخزي مبطلي النظر في إلحاق النظير بالنظير ، فإن عامة مسائلها إنما هي مبنية على ذلك ; إذ النصوص لم تستوف فيها ، ولا أحاطت بنوازلها ، وسترى ذلك فيها إن شاء الله . وقد روى فضل الفرائض عن مطرف قال : قال مالك : من لم يتعلم الفرائض والحج والطلاق فبم يفضل أهل البادية ؟ وقال عبد الله بن مسعود وهب عن : كنت أسمع مالك يقول : من تعلم الفرائض من غير علم بها من القرآن ما أسرع ما ينساها . قال ربيعة : وصدق . مالك
وقد أطلنا فيها النفس في مسائل الخلاف ; فأما الآن فإنا نشير إلى نكت تتعلق بألفاظ الكتاب ، وفيها ست عشرة مسألة :
المسألة الأولى : في المخاطب بها ، وعلى من يعود الضمير ؟ : وبيانه أن الخطاب عام في الموتى الموروثين ، والخلفاء الحاكمين ، وجميع المسلمين ; أما تناولها للموتى فليعلموا المستحقين لميراثهم بعدهم فلا يخالفوه بعقد ولا عهد ; وفي ذلك آثار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أمهاتها ثلاثة أحاديث :
الحديث الأول : حديث في الصحيح : { سعد } . عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع في مرض اشتد بي ، فقلت : يا رسول الله ; أنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي ; أفأتصدق بمالي كله ؟ قال : لا . قلت : فالثلثان ؟ قال : لا . قلت : فالشطر ؟ قال : [ ص: 431 ] لا . الثلث ، والثلث كثير ; إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس
الثاني : ما ثبت في الصحيح قال : { أبو هريرة } . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل : أي الصدقة أفضل ؟ قال : أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا ، وقد كان لفلان كذا
الثالث : ما روى ، عن مالك أن عائشة قال لها في مرض موته : " إني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا من تمر ، فلو كنت جددته لكان لك ، وإنما هو اليوم مال الوارث " . فبين الله سبحانه أن أبا بكر الصديق ، فإذا وجد أحد سببي زواله وهو المرض قبل وجود الثاني ، وهو الموت منع من ثلثي ماله ، وحجر عليه تفويته لتعلق حق الوارث به ، فعهد الله سبحانه بذلك إليه ، ووصى به ليعلمه فيعمل به ; ووجوب الحكم المعلق على سببين بأحد سببيه ثابت معلوم في الفقه ; لجواز إخراج [ ص: 432 ] الكفارة بعد اليمين ، وقبل الحنث ، وبعد الخروج ، وقبل الموت في القتل ، وكذلك صح المرء أحق بماله في حياته . وأما تناوله للخلفاء الحاكمين فليقضوا به على من نازع في ذلك من المتخاصمين . وأما تناوله لكافة المسلمين فليكونوا به عالمين ، ولمن جهله مبينين ، وعلى من خالفه منكرين ، وهذا فرض يعم الخلق أجمعين ، وهو فن غريب من تناول الخطاب للمخاطبين ، فافهموه واعملوا به وحافظوا عليه واحفظوه ، والله المستعان . سقوط الشفعة بوجود الاشتراك في المال قبل البيع
المسألة الثانية : في سبب نزولها : وفي ذلك ثلاثة أقوال : الأول : أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون الضعفاء من الغلمان ولا الجواري ، فأنزل الله تعالى ذلك ، وبين حكمه ورد قولهم . الثاني : قال : كان ابن عباس ، وكانت الميراث للولد ; فرد الله ذلك وبين المواريث ، رواه في الصحيح . الوصية للوالدين والأقرباء
الثالث : أن ، وهو مقارب الحديث عندهم ، روى عن { عبد الله بن محمد بن عقيل قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى جئنا امرأة من جابر بن عبد الله الأنصار في الأسواق ، وهي جدة خارجة بن زيد بن ثابت ، فزرناها ذلك اليوم ، فعرشت لنا صورا فقعدنا تحته ، وذبحت لنا شاة وعلقت لنا قربة ، فبينما نحن نتحدث إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الآن يأتيكم رجل من أهل الجنة فطلع علينا فتحدثنا ، ثم قال لنا : الآن يأتيكم رجل من أهل الجنة فطلع علينا أبو بكر الصديق فتحدثنا ، فقال : الآن يأتيكم رجل من أهل الجنة . قال : فرأيته يطأطئ رأسه من سعف الصور يقول : اللهم إن شئت جعلته عمر بن الخطاب ، فجاء حتى دخل علينا ، فهنيئا لهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ، فجاءت المرأة بطعامها فتغدينا ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الظهر ، فقمنا معه ما توضأ ولا أحد منا ، غير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بكفه جرعا من [ ص: 433 ] الماء فتمضمض بهن من غمر الطعام ; فجاءت المرأة بابنتين لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ; هاتان بنتا علي بن أبي طالب سعد بن الربيع قتل معك يوم أحد ، وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما كله ، فلم يدع لهما مالا إلا أخذه ; فما ترى يا رسول الله ؟ فوالله لا تنكحان أبدا إلا ولهما مال . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقضي الله في ذلك فنزلت : { يوصيكم الله في أولادكم } الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع لي المرأة وصاحبها فقال لعمهما : أعطهما الثلثين ، وأعط أمهما الثمن ، ولك الباقي } . فقال محمد بن عبد الله بن محمد بن عطاء مقارب الحديث قال الإمام أبو بكر : هو مقبول لهذا الإسناد .
الثالث : ما روى عن البخاري { جابر يوصيكم الله في أولادكم } } رد لكل عمل من تلك الأعمال وإبطال لجميع الأقوال المتقدمة ، إلا أن في حديث قلت : يا رسول الله ; ما ترى أن أصنع في مالي ؟ فنزلت : { الأول فائدة ; وهو أن ما كانت الجاهلية تفعل في صدر الإسلام لم يكن شرعا مسكوتا عنه ; مقرا عليه ; لأنه لو كان شرعا مقرا عليه لما حكم النبي عليه السلام على عم الصبيتين برد ما أخذ من مالهما ; لأن الأحكام إذا مضت وجاء النسخ بعدها إنما تؤثر في المستقبل ، ولا ينقض به ما تقدم ، وإنما كانت ظلامة وقعت ، أما أن الذي وقعت الوصية به للوالدين والأقربين فأخرجت عنها أهل المواريث . جابر
المسألة الثالثة : قوله : { في أولادكم } يتناول كل ولد كان موجودا من صلب الرجل دنيا أو بعيدا ; قال الله تعالى : { يا بني آدم } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { } . وقال تعالى : { أنا سيد ولد أدم ولكم نصف [ ص: 434 ] ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد } فدخل فيه كل من كان لصلب الميت دنيا أو بعيدا . ويقال بنو تميم ; فيعم الجميع ; فمن علمائنا من قال : ذلك حقيقة في الأدنين مجاز في الأبعدين . ومنهم من قال : هو حقيقة في الجميع ; لأنه من التولد ، فإن كان الصحيح أن ذلك حقيقة في الجميع فقد غلب مجاز الاستعمال في إطلاقه على الأعيان في الأدنين على تلك الحقيقة . والصحيح عندي أنه مجاز في البعداء بدليل أنه ينفي عنه ; فيقال ليس بولد ، ولو كان حقيقة لما ساغ نفيه ، ألا ترى أنه يسمي ولد الولد ولدا ، ولا يسمي به ولد الأعيان ، وكيفما دارت الحال فقد اجتمعت الأمة هاهنا على أنه ينطلق على الجميع . وقد قال : لو حبس رجل على ولده لانتقل إلى أبنائهم ، ولو قال صدقة فاختلف قول علمائنا ; هل تنقل إلى أولاد الأولاد على قولين ، وكذلك في الوصية . واتفقوا على أنه لو حلف لا ولد له وله حفدة لم يحنث . وإنما اختلف ذلك في أقوال المخلوقين في هذه المسائل لوجهين : أحدهما : أن الناس اختلفوا في عموم كلام المخلوقين هل يحمل على العموم كما يحمل كلام الباري ؟ فإذا قلنا بذلك فيه على قولين : أحدهما أنه لا يحمل كلام الناس على العموم بحال ، وإن حمل كلام الله سبحانه عليه . مالك
الثاني : أن كلام الناس يرتبط بالأغراض والمقاصد ، والمقصود من الحبس التعقيب ، فدخل فيه ولد الولد ، والمقصود من الصدقة التمليك ; فدخل فيه الأدنى خاصة ولم يدخل فيه من بعد إلا بدليل . [ ص: 435 ] والذي يحقق ذلك أنه قال بعده : { ولأبويه لكل واحد منهما السدس } فدخل فيه آباء الآباء ، وكذلك يدخل فيه أولاد الأولاد .