وقفت بها أصيلانا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأيا ما أبينها
والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
المسألة الثالثة : أراد بعض أصحاب أن يخرج هذا من الشافعي ; ويجعله متصلا لجهله باللغة وكونه أعجميا في الاستثناء المنقطع السلف ; فقال : هو استثناء صحيح . وفائدته أن له أن يقتله خطأ في بعض الأحوال ، فيا لله ، ويا للعالمين من هذا الكلام ، كيف يصح في عقل عاقل أن يقول : أبيح له أن يقتله خطأ ، ومن شرط الإذن والإباحة المكلف وقصده ، وذلك ضد الخطأ ، فالكلام لا يتحصل معقولا . ثم قال : وهو أن يرى عليه لبسة المشركين والانحياز إليهم كقصة مع أبيه يوم حذيفة أحد . قلنا له : هذا هو الاستثناء المنقطع ; لأن القتل وقع خلاف القصد ، وهو قصد إلى مشرك ، فتبين أنه مسلم ; فهذا لا يدخل تحت التكليف أمرا ولا نهيا . ثم قال : وقول الله سبحانه : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } يقتضي أن يقال : إنما يباح له إذا وجد شرط الإباحة ، وشرط الإباحة أن يكون خطأ ، وفي هذا القول من التهافت لمن تأمله ما يغني عن رده . وكيف يتصور أن يقال : شرط إباحة القتل أن لا يقصد ، لاهم إلا أن كون المقلد ألم بقول المبتدعة : إن المأمور لا يعلم كونه مأمورا إلا بعد تقضي الامتثال ومضائه ; فالاختلال في المقال واحد والرد واحد ، فلتلحظه في أصوله التي صنف ; فإنه من جنسه ; ثم أبطل هو هذا وكان في غنى عن ذكره وإبطاله . ثم قال : إن أقرب قول فيه أن يقال : إن قوله سبحانه : { إلا خطأ } اقتضى تأثيم قاتله لاقتضاء النهي ذلك ، فقوله تعالى : { إلا خطأ } رفع للتأثيم عن قاتله ; وإنما [ ص: 598 ] دخل الاستثناء على ما تضمنه اللفظ من استحقاق المآثم ، فأخرج منه قاتل الخطأ ، وجاء الاستثناء على حقيقته ; وهذا كلام من لا يعلم اللغة ولا يفهم مقاطع الشريعة ، بل قوله : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا } معناه كما قلنا جائز ضرورة لا وجودا ; فنفى الله سبحانه جواز ذلك لا وجوده ، فقول هذا الرجل : إن ذلك يقتضي تأثيم قاتله لا يصح ; لأنه ليس ضد الجواز التحريم وحده ; بل ضد الندب والكراهية على قول ، والوجوب والتحريم على آخر ، فلم عين هذا الرجل من نفي الجواز التحريم المؤثم .
أما إن ذلك علم من دليل آخر لا من نفس هذا اللفظ . ثم نقول : هبك أنا أوجبنا عليه بهذا اللفظ ، وقلنا له : إن معناه الصريح أنت آثم إن قتلته ، إلا أن تقتله خطأ ، فإنه يكون استثناء من غير الجنس ; لأن الإثم أيضا إنما يرتبط بالعمد ، فإذا قال بعده : إلا خطأ ، فهو ضده ، فصار منقطعا عنه حقيقة وصفة ورفعا للمأثم .
وقوله : فإنما دخل الاستثناء على ما يتضمنه اللفظ من استحقاق المأثم فقد بينا أن اللفظ ليس فيه لذلك ذكر حقيقة ولا مجازا ; وإنما يؤخذ الإثم من دليل آخر ، وقد أشرنا نحن إلى حقيقته في أول الأمر . وقد قال بعض النحارير : إن الآية نزلت في سبب ; { وذلك أن لقي رجلا من المشركين في غزاة فعلاه بالسيف ، فقال : لا إله إلا الله ; فقتله ; فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال : أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟ فقال : يا رسول الله ، إنما قالها متعوذا . فجعل يكرر عليه : بعد أن قال : لا إله إلا الله ؟ أسامة } . قال : فلقد تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم .
فهذا قتل متعمدا مخطئا في اجتهاده . وهذا نفيس . ومثله قتل أبي حذيفة يوم أحد ، فمتعلق الخطأ غير متعلق العمد ، ومحله غير محله [ ص: 599 ] وهو استثناء منقطع أيضا منه ; ولذلك قالت جماعة : إن الآيتين نزلت في شأن مقيس بن صبابة ، فإنه أسلم هو وأخوه هشام فأصاب هشاما رجل من الأنصار من رهط ، وهو يرى أنه من العدو ، فقتله خطأ في هزيمة عبادة بن الصامت بني المصطلق من خزاعة ، وكان أخوه مقيس بمكة ، فقدم مسلما فيما يظهر .
وقيل : لم يبرح من المدينة فطلب دية أخيه ، فبعث معه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من فهر إلى بني النجار في ديته ، فدفعوا إليه الدية مائة من الإبل ، فلما انصرف مقيس والفهري راجعين إلى المدينة قتل مقيس الفهري ، وارتد عن الإسلام ، وركب جملا منها ، وساق معه البقية ، ولحق كافرا بمكة ، وقال :
شفى النفس أن قد مات بالقاع مسندا يضرج في ثوبيه دماء الأخادع
وكانت هموم النفس من قبل قتله تلم فتحميني وطاء المضاجع
ثأرت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع
حللت به وتري وأدركت ثؤرتي وكنت إلى الأوثان أول راجع