[ ص: 115 ] القول في تأويل قوله : ( إلا أن يأتين بفاحشة مبينة )
قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : لا يحل لكم ، أيها المؤمنون ، أن تعضلوا نساءكم ضرارا منكم لهن ، وأنتم لصحبتهن كارهون ، وهن لكم طائعات ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فيحل لكم حينئذ الضرار بهن ليفتدين منكم .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى " الفاحشة " التي ذكرها الله - جل ثناؤه - في هذا الموضع .
فقال بعضهم : معناها الزنا ، وقال : إذا زنت امرأة الرجل حل له عضلها والضرار بها ، لتفتدي منه بما آتاها من صداقها .
ذكر من قال ذلك :
8893 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن إدريس قال : أخبرنا أشعث ، عن الحسن في قال : تضرب مائة ، وتنفى سنة ، وترد إلى زوجها ما أخذت منه . وتأول هذه الآية : البكر تفجر ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة .
8894 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن - في عطاء الخراساني ، أخذ ما ساق إليها وأخرجها ، فنسخ ذلك الحدود . [ ص: 116 ] 8895 - حدثنا الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أحمد بن منيع قال : حدثنا قال : أخبرنا عبد الله بن المبارك معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة قال : إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة ، فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تختلع منه .
8896 - حدثنا ابن حميد قال : أخبرنا ابن المبارك قال : أخبرني معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة - في الرجل يطلع من امرأته على فاحشة ، فذكر نحوه .
8897 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : السدي إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، وهو الزنا ، فإذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن .
8898 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن قال : أخبرني ابن جريج عبد الكريم : أنه سمع : الحسن البصري إلا أن يأتين بفاحشة ، قال : الزنا . قال : وسمعت الحسن وأبا الشعثاء يقولان : فإن فعلت ، حل لزوجها أن يكون هو يسألها الخلع ، تفتدي نفسها .
وقال آخرون : " الفاحشة المبينة " في هذا الموضع ، النشوز .
ذكر من قال ذلك :
8899 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، وهو البغض والنشوز ، فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية .
8900 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا حكام قال : حدثنا عنبسة ، عن علي بن بذيمة ، عن مقسم في قوله " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يفحشن" في قراءة ابن مسعود . قال : إذا عصتك وآذتك ، فقد حل لك [ ص: 117 ] أخذ ما أخذت منك .
8901 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير ، عن مطرف بن طريف ، عن خالد ، عن الضحاك بن مزاحم : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، قال : الفاحشة هاهنا النشوز . فإذا نشزت ، حل له أن يأخذ خلعها منها .
8902 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، قال : هو النشوز .
8903 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن قال : قال ابن جريج عطاء بن أبي رباح : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن : إن شئتم أمسكتموهن ، وإن شئتم أرسلتموهن .
8904 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، قال : عدل ربنا تبارك وتعالى في القضاء ، فرجع إلى النساء فقال : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، و " الفاحشة " : العصيان والنشوز . فإذا كان ذلك من قبلها ، فإن الله أمره أن يضربها ، وأمره بالهجر . فإن لم تدع العصيان والنشوز ، فلا جناح عليه بعد ذلك أن يأخذ منها الفدية .
[ ص: 118 ] قال أبو جعفر : وأولى ما قيل في تأويل قوله : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، أنه معني به كل " فاحشة " : من بذاء باللسان على زوجها ، وأذى له ، وزنا بفرجها . وذلك أن الله - جل ثناؤه - عم بقوله : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، كل فاحشة متبينة ظاهرة . فكل زوج امرأة أتت بفاحشة من الفواحش التي هي زنا أو نشوز ، فله عضلها على ما بين الله في كتابه ، والتضييق عليها حتى تفتدي منه ، بأي معاني الفواحش أتت ، بعد أن تكون ظاهرة مبينة بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى ، وصحة الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالذي :
8905 - حدثني يونس بن سليمان البصري قال : حدثنا حاتم بن إسماعيل قال : حدثنا عن أبيه ، عن جعفر بن محمد ، جابر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف . اتقوا الله في النساء
[ ص: 119 ] 8906 - حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال : حدثنا قال : حدثنا زيد بن الحباب موسى بن عبيدة الربذي قال : حدثني صدقة بن يسار ، عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : . أيها الناس ، إن النساء عندكم عوان ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن حق ، ولهن عليكم حق . ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا ولا يعصينكم في معروف ، وإذا فعلن ذلك ، فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف
فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن من أن لا توطئ فراشه أحدا ، وأن لا تعصيه في معروف ، وأن الذي يجب لها من الرزق والكسوة عليه ، وإنما هو واجب عليه إذا أدت هي إليه ما يجب عليها من الحق ، بتركها إيطاء فراشه غيره ، وتركها معصيته في معروف . حق الزوج على المرأة
ومعلوم أن معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " إنما هو أن لا يمكن من أنفسهن أحدا سواكم . من حقكم عليهن أن لا يوطئن [ ص: 120 ] فرشكم أحدا
وإذ كان ما روينا في ذلك صحيحا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبين أن لزوج المرأة إذا أوطأت امرأته نفسها غيره وأمكنت من جماعها سواه ، أن له من منعها الكسوة والرزق بالمعروف ، مثل الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف . وإذ كان ذلك له ؛ فمعلوم أنه غير مانع لها - بمنعه إياها ما له منعها - حقا لها واجبا عليه . وإذ كان ذلك كذلك ، فبين أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها ؛ فأخذ منها زوجها ما أعطته - أنه لم يأخذ ذلك عن عضل منهي عنه ، بل هو أخذ ما أخذ منها عن عضل له مباح . وإذ كان ذلك كذلك ، كان بينا أنه داخل في استثناء الله تبارك وتعالى الذي استثناه من العاضلين بقوله : ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . وإذ صح ذلك ، فبين فساد قول من قال : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة منسوخ بالحدود ؛ لأن الحد حق الله - جل ثناؤه - على من أتى بالفاحشة التي هي زنا . وأما العضل لتفتدي المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه ، فحق لزوجها كما : عضله إياها وتضييقه عليها إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه - حق له . وليس حكم أحدهما يبطل حكم الآخر .
قال أبو جعفر : فمعنى الآية : ولا يحل لكم ، أيها الذين آمنوا ، أن تعضلوا نساءكم فتضيقوا عليهن وتمنعوهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتكم ، إلا أن يأتين بفاحشة من زنا أو بذاء عليكم ، وخلاف لكم فيما يجب عليهن لكم - مبينة ظاهرة ، فيحل لكم حينئذ عضلهن [ ص: 121 ] والتضييق عليهن ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق إن هن افتدين منكم به .
واختلف القرأة في قراءة قوله : " مبينة " .
فقرأه بعضهم : " مبينة " بفتح " الياء " بمعنى أنها قد بينت لكم وأعلنت وأظهرت .
وقرأه بعضهم : " مبينة " بكسر " الياء " بمعنى أنها ظاهرة بينة للناس أنها فاحشة .
وهما قراءتان مستفيضتان في قرأة أمصار الإسلام ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب في قراءته الصواب ، لأن الفاحشة إذا أظهرها صاحبها فهي ظاهرة بينة . وإذا ظهرت ، فبإظهار صاحبها إياها ظهرت . فلا تكون ظاهرة بينة إلا وهي مبينة ، ولا مبينة إلا وهي مبينة . فلذلك رأيت القراءة بأيهما قرأ القارئ صوابا .