القول في يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ) تأويل قوله (
وهذا تقدم من الله تعالى ذكره إلى عباده المؤمنين به وبرسوله أن يفعلوا فعل الذين سعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر بني أبيرق أن يقوم بالعذر لهم في أصحابه ، وذبهم عنهم ، وتحسينهم أمرهم بأنهم أهل فاقة وفقر ، يقول الله لهم : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط " ، يقول : ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط يعني : بالعدل"شهداء لله" .
و"الشهداء" جمع"شهيد" .
[ ص: 302 ]
ونصبت"الشهداء" على القطع مما في قوله : "قوامين" من ذكر"الذين آمنوا" ، ومعناه : قوموا بالقسط لله عند شهادتكم أو حين شهادتكم .
" ولو على أنفسكم " ، يقول : ولو كانت شهادتكم على أنفسكم ، أو على والدين لكم أو أقربيكم ، فقوموا فيها بالقسط والعدل ، وأقيموها على صحتها بأن تقولوا فيها الحق ، ولا تميلوا فيها لغني لغناه على فقير ، ولا لفقير لفقره على غني ، فتجوروا ؛ فإن الله الذي سوى بين حكم الغني والفقير فيما ألزمكم أيها الناس من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل"أولى بهما" ، وأحق منكم ، لأنه مالكهما وأولى بهما دونكم ، فهو أعلم بما فيه مصلحة كل واحد منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها منكم ، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليهما" فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " ، يقول : فلا تتبعوا أهواء أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها - لغني على فقير ، أو لفقير على غني - إلا أحد الفريقين ، فتقولوا غير الحق ، ولكن قوموا فيه بالقسط ، وأدوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها ، بالعدل لمن شهدتم له وعليه .
فإن قال قائل : وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهد بالقسط ؟ وهل يشهد الشاهد على نفسه ؟
قيل : نعم ، وذلك أن يكون عليه حق لغيره فيقر له به ، فذلك قيام منه له بالشهادة على نفسه .
قال أبو جعفر : وهذه الآية عندي تأديب من الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا ، وخيانتهم ما خانوا [ ص: 303 ] ممن ذكرنا قبل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشهادتهم لهم عنده بالصلاح . فقال لهم : إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه ، فقولوا فيها بالعدل ، ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم ، ولا يحملنكم غنى من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورحمه منكم ، على الشهادة له بالزور ، ولا على ترك الشهادة عليه بالحق وكتمانها .
وقد قيل إنها نزلت تأديبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
10678 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن في قوله : " السدي يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " ، قال : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم ؛ واختصم إليه رجلان : غني وفقير ، وكان ضلعه مع الفقير ، يرى أن الفقير لا يظلم الغني ، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير فقال : " إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " ، الآية .
وقال آخرون : في ذلك نحو قولنا : إنها نزلت في الشهادة ، أمرا من الله المؤمنين أن يسووا - في قيامهم بشهاداتهم - لمن قاموا بها ، بين الغني والفقير .
[ ص: 304 ]
ذكر من قال ذلك :
10679 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين " ، قال : أمر الله المؤمنين أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم ، ولا يحابوا غنيا لغناه ، ولا يرحموا مسكينا لمسكنته ، وذلك قوله : " إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " ، فتذروا الحق ، فتجوروا .
10680 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن يونس ، عن ابن شهاب في شهادة الوالد لولده وذي القرابة قال : كان ذلك فيما مضى من السنة في سلف المسلمين ، وكانوا يتأولون في ذلك قول الله : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما " الآية ، فلم يكن يتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده ، ولا الولد لوالده ، ولا الأخ لأخيه ، ولا الرجل لامرأته ، ثم دخل الناس بعد ذلك ، فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم ، فتركت شهادة من يتهم ، إذا كانت من أقربائهم . وصار ذلك من الولد والوالد ، والأخ والزوج والمرأة ، لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان .
10681 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " إلى آخر الآية ، قال : لا يحملك فقر هذا على أن ترحمه فلا تقيم عليه الشهادة . قال : يقول هذا للشاهد . [ ص: 305 ]
10682 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا قال : حدثنا يزيد بن زريع سعيد ، عن قتادة : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " الآية ، هذا في الشهادة . فأقم الشهادة ، يا ابن آدم ، ولو على نفسك ، أو الوالدين ، أو على ذوي قرابتك ، أو شرف قومك . فإنما الشهادة لله وليست للناس ، وإن الله رضي العدل لنفسه ، والإقساط والعدل ميزان الله في الأرض ، به يرد الله من الشديد على الضعيف ، ومن الكاذب على الصادق ، ومن المبطل على المحق . وبالعدل يصدق الصادق ، ويكذب الكاذب ، ويرد المعتدي ويرنخه ، تعالى ربنا وتبارك . وبالعدل يصلح الناس ، يا ابن آدم" إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما " ، يقول : أولى بغنيكم وفقيركم . قال : وذكر لنا أن نبي الله موسى عليه السلام قال : "يا رب ، أي شيء وضعت في الأرض أقل ؟ " ، قال : "العدل أقل ما وضعت في الأرض" . فلا يمنعك غنى غني ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم ، فإن ذلك عليك من الحق ، وقال جل ثناؤه : " فالله أولى بهما " .
وقد قيل : " إن يكن غنيا أو فقيرا " الآية ، أريد : فالله أولى بغنى الغني وفقر الفقير . لأن ذلك منه لا من غيره ، فلذلك قال : "بهما" ، ولم يقل"به" .
وقال آخرون : إنما قيل : "بهما" ، لأنه قال : " إن يكن غنيا أو فقيرا " ، فلم يقصد فقيرا بعينه ولا غنيا بعينه ، وهو مجهول . وإذا كان مجهولا جاز الرد منه بالتوحيد والتثنية والجمع .
[ ص: 306 ]
وذكر قائلو هذا القول ، أنه في قراءة أبي : ( فالله أولى بهم ) .
وقال آخرون : "أو" بمعنى"الواو" في هذا الموضع .
وقال آخرون : جاز تثنية قوله : "بهما" ، لأنهما قد ذكرا ، كما قيل .
( وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما ) [ سورة النساء : 12 ] .
وقيل : جاز ، لأنه أضمر فيه"من" ، كأنه قيل : إن يكن من خاصم غنيا أو فقيرا بمعنى : غنيين أو فقيرين" فالله أولى بهما " .
وتأويل قوله : " فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " أي : عن الحق ، فتجوزوا بترك إقامة الشهادة بالحق . ولو وجه إلى أن معناه : فلا تتبعوا أهواء أنفسكم هربا من أن تعدلوا عن الحق في إقامة الشهادة بالقسط ، لكان وجها .
وقد قيل : معنى ذلك : فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا كما يقال : "لا تتبع هواك لترضي ربك" ، بمعنى : أنهاك عنه ، كما ترضي ربك بتركه .