قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال بعضهم : عنى : "وإن تلووا" أيها الحكام في الحكم لأحد الخصمين [ ص: 307 ] على الآخر" أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " .
ووجهوا معنى الآية إلى أنها نزلت في الحكام ، على نحو القول الذي ذكرنا عن من قوله : إن الآية نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكرنا قبل . السدي
ذكر من قال ذلك :
10683 - حدثنا ابن حميد قالا حدثنا وابن وكيع جرير ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قول الله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، قال : هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي ، فيكون لي القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر .
وقال آخرون : معنى ذلك : وإن تلووا ، أيها الشهداء ، في شهاداتكم فتحرفوها ولا تقيموها أو تعرضوا عنها فتتركوها .
ذكر من قال ذلك :
10684 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، يقول : إن تلووا بألسنتكم بالشهادة ، أو تعرضوا عنها .
10685 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " إلى قوله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، يقول : تلوي [ ص: 308 ] لسانك بغير الحق ، وهي اللجلجة ، فلا تقيم الشهادة على وجهها . و"الإعراض" ، الترك .
10686 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " وإن تلووا " ، أي تبدلوا الشهادة" أو تعرضوا " ، قال : تكتموها .
10687 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن تلووا ، قال : بتبديل الشهادة ، و"الإعراض" كتمانها .
10688 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، قال : إن تحرفوا أو تتركوا .
10689 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " وإن تلووا أو تعرضوا ، قال : تلجلجوا ، أو تكتموا . وهذا في الشهادة .
10690 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : " السدي وإن تلووا أو تعرضوا " ، أما "تلووا" ، فتلوي للشهادة فتحرفها حتى لا تقيمها وأما "تعرضوا" فتعرض عنها فتكتمها ، وتقول : ليس عندي شهادة!
10691 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد : " وإن تلووا " ، فتكتموا الشهادة ، يلوي ببعض منها أو يعرض عنها فيكتمها ، فيأبى أن يشهد عليه ، يقول : أكتم عنه لأنه مسكين أرحمه! فيقول : لا أقيم الشهادة عليه . ويقول : هذا غني أبقيه وأرجو ما قبله ، فلا أشهد عليه! فذلك قوله : " إن يكن غنيا أو فقيرا " . [ ص: 309 ]
10692 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " وإن تلووا ، تحرفوا" أو تعرضوا " ، تتركوا .
10693 - حدثنا محمد بن عمارة قال : حدثنا حسن بن عطية قال : حدثنا عن فضيل بن مرزوق ، عطية في قوله : " وإن تلووا " ، قال : إن تلجلجوا في الشهادة فتفسدوها" أو تعرضوا " ، قال : تتركوها .
10694 - حدثنا المثنى قال : حدثنا قال : أخبرنا عمرو بن عون هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، قال : إن تلووا في الشهادة ، أن لا تقيمها على وجهها " أو تعرضوا ، قال : تكتموا الشهادة .
10695 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال : حدثنا شيبان ، عن قتادة : أنه كان يقول : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، يعني : تلجلجوا"أو تعرضوا" ، قال : تدعها فلا تشهد .
10696 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن تلووا أو تعرضوا " ، أما"تلووا" ، فهو أن يلوي الرجل لسانه بغير الحق . يعني : في الشهادة .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، تأويل من تأوله ، أنه لي الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه ، وذلك تحريفه إياها بلسانه ، وتركه إقامتها ، ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له ، وعمن شهد عليه .
[ ص: 310 ]
وأما إعراضه عنها ، فإنه تركه أداءها والقيام بها ، فلا يشهد بها .
وإنما قلنا : هذا التأويل أولى بالصواب ، لأن الله جل ثناؤه قال : " كونوا قوامين بالقسط شهداء الله " ، فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء . وأظهر معاني"الشهداء" ، ما ذكرنا من وصفهم بالشهادة .
واختلفت القرأة في قراءة قوله : "وإن تلووا" .
فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار سوى الكوفة : ( وإن تلووا ) بواوين ، من : "لواني الرجل حقي ، والقوم يلوونني ديني" وذلك إذا مطلوه"ليا" .
وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة : ( وإن تلوا ) بواو واحدة .
ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان :
أحدهما : أن يكون قارئها أراد همز "الواو" لانضمامها ، ثم أسقط الهمز ، فصار إعراب الهمز في اللام إذ أسقطه ، وبقيت واو واحدة . كأنه أراد : "تلؤوا" ثم حذف الهمز . وإذا عنى هذا الوجه ، كان معناه معنى من قرأ : "وإن تلووا" ، بواوين ، غير أنه خالف المعروف من كلام العرب . وذلك أن"الواو" الثانية من قوله : "تلووا" واو جمع ، وهي علم لمعنى ، فلا يصح همزها ، ثم حذفها بعد همزها ، فيبطل علم المعنى الذي له أدخلت "الواو" المحذوفة .
والوجه الآخر : أن يكون قارئها كذلك ، أراد : أن"تلوا" من"الولاية" ، فيكون معناه : وأن تلوا أمور الناس وتتركوا . وهذا معنى إذا وجه القارئ قراءته على ما وصفنا ، إليه خارج عن معاني أهل التأويل ، وما وجه إليه أصحاب رسول الله صلى [ ص: 311 ] الله عليه وسلم والتابعون ، تأويل الآية .
قال أبو جعفر : فإذ كان فساد ذلك واضحا من كلا وجهيه ، فالصواب من القراءة الذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا : ( وإن تلووا أو تعرضوا ) ، بمعنى : "اللي" الذي هو مطل .
فيكون تأويل الكلام : وإن تدفعوا القيام بالشهادة على وجهها لمن لزمكم القيام له بها ، فتغيروها وتبدلوا ، أو تعرضوا عنها فتتركوا القيام له بها ، كما يلوي الرجل دين الرجل فيدافعه بأدائه إليه على ما أوجب عليه له مطلا منه له ، كما قال الأعشى :
يلوينني ديني النهار ، وأقتضي ديني إذا وقذ النعاس الرقدا
وأما تأويل قوله : " فإن الله كان بما تعملون خبيرا " ، فإنه أراد : " فإن الله كان بما تعملون " ، من إقامتكم الشهادة وتحريفكم إياها ، وإعراضكم عنها [ ص: 312 ] بكتمانكموها"خبيرا" ، يعني ذا خبرة وعلم به ، يحفظ ذلك منكم عليكم ، حتى يجازيكم به جزاءكم في الآخرة ، المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته . يقول : فاتقوا ربكم في ذلك .