[ ص: 363 ] القول في تأويل قوله ( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ( 155 ) )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه : فبنقض هؤلاء الذين وصفت صفتهم من أهل الكتاب"ميثاقهم" ، يعني : عهودهم التي عاهدوا الله أن يعملوا بما في التوراة "وكفرهم بآيات الله" ، يقول : وجحودهم"بآيات الله" ، يعني : بأعلام الله وأدلته التي احتج بها عليهم في صدق أنبيائه ورسله وحقيقة ما جاءوهم به من عنده "وقتلهم الأنبياء بغير حق" ، يقول : وبقتلهم الأنبياء بعد قيام الحجة عليهم بنبوتهم"بغير حق" ، يعني : بغير استحقاق منهم ذلك لكبيرة أتوها ، ولا خطيئة استوجبوا القتل عليها "وقولهم قلوبنا غلف" ، يعني : وبقولهم" قلوبنا غلف " ، يعني : يقولون : عليها غشاوة وأغطية عما تدعونا إليه ، فلا نفقه ما تقول ولا نعقله .
وقد بينا معنى "الغلف" ، وذكرنا ما في ذلك من الرواية فيما مضى قبل .
" بل طبع الله عليها بكفرهم " ، يقول جل ثناؤه : كذبوا في قولهم : " قلوبنا غلف " ، ما هي بغلف ، ولا عليها أغطية ، ولكن الله جل ثناؤه جعل عليها طابعا بكفرهم بالله .
[ ص: 364 ]
وقد بينا صفة "الطبع على القلب" ، فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته .
" فلا يؤمنون إلا قليلا " ، يقول : فلا يؤمن - هؤلاء الذين وصف الله صفتهم ، لطبعه على قلوبهم ، فيصدقوا بالله ورسله وما جاءتهم به من عند الله - إلا إيمانا قليلا يعني : تصديقا قليلا وإنما صار "قليلا" ، لأنهم لم يصدقوا على ما أمرهم الله به ، ولكن صدقوا ببعض الأنبياء وببعض الكتب ، وكذبوا ببعض . فكان تصديقهم بما صدقوا به قليلا لأنهم وإن صدقوا به من وجه ، فهم به مكذبون من وجه آخر ، وذلك من وجه تكذيبهم من كذبوا به من الأنبياء وما جاءوا به من كتب الله ، ورسل الله يصدق بعضهم بعضا . وبذلك أمر كل نبي أمته . وكذلك كتب الله يصدق بعضها بعضا ، ويحقق بعض بعضا . فالمكذب ببعضها مكذب بجميعها ، من جهة جحوده ما صدقه الكتاب الذي يقر بصحته . فلذلك صار إيمانهم بما آمنوا من ذلك قليلا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
10774 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " فبما نقضهم ميثاقهم " ، يقول : فبنقضهم ميثاقهم لعناهم"وقولهم قلوبنا غلف" ، أي لا نفقه ، "بل طبع الله عليها بكفرهم" ، ولعنهم حين فعلوا ذلك .
[ ص: 365 ]
واختلف في معنى قوله : " فبما نقضهم " ، الآية ، هل هو مواصل لما قبله من الكلام ، أو هو منفصل منه .
فقال بعضهم : هو منفصل مما قبله ، ومعناه : فبنقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وقولهم قلوبنا غلف ، طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم .
ذكر من قال ذلك :
10775 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " فلا يؤمنون إلا قليلا " ، لما ترك القوم أمر الله ، وقتلوا رسله ، وكفروا بآياته ، ونقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم ، طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم .
وقال آخرون : بل هو مواصل لما قبله . قالوا : ومعنى الكلام : فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فبنقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وبقتلهم الأنبياء بغير حق ، وبكذا وكذا أخذتهم الصاعقة . قالوا : فتبع الكلام بعضه بعضا ، ومعناه : مردود إلى أوله . وتفسير"ظلمهم" ، الذي أخذتهم الصاعقة من أجله ، بما فسر به تعالى ذكره ، من نقضهم الميثاق ، وقتلهم الأنبياء ، وسائر ما بين من أمرهم الذي ظلموا فيه أنفسهم .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن قوله : " فبما نقضهم ميثاقهم " وما بعده ، منفصل معناه من معنى ما قبله ، وأن معنى الكلام : فبما نقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وبكذا وبكذا ، لعناهم وغضبنا عليهم فترك ذكر"لعناهم " ، [ ص: 366 ] لدلالة قوله : " بل طبع الله عليها بكفرهم " ، على معنى ذلك . إذ كان من طبع على قلبه ، فقد لعن وسخط عليه .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الذين أخذتهم الصاعقة ، إنما كانوا على عهد موسى والذين قتلوا الأنبياء ، والذين رموا مريم بالبهتان العظيم ، وقالوا : "قتلنا المسيح" ، كانوا بعد موسى بدهر طويل . ولم يدرك الذين رموا مريم بالبهتان العظيم زمان موسى ، ولا من صعق من قومه .
وإذ كان ذلك كذلك ، فمعلوم أن الذين أخذتهم الصاعقة ، لم تأخذهم عقوبة لرميهم مريم بالبهتان العظيم ، ولا لقولهم : " إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم " . وإذ كان ذلك كذلك ، فبين أن القوم الذين قالوا هذه المقالة غير الذين عوقبوا بالصاعقة . وإذ كان ذلك كذلك ، كان بينا انفصال معنى قوله : " فبما نقضهم ميثاقهم " ، من معنى قوله : " فأخذتهم الصاعقة بظلمهم " .