قال أبو جعفر : يعني بقوله عز ذكره : " ولا آمين البيت الحرام " ، ولا تحلوا قاصدي البيت الحرام العامديه .
تقول منه : "أممت كذا" ، إذا قصدته وعمدته ، وبعضهم يقول : "يممته" كما قال الشاعر :
إني كذاك إذا ما ساءني بلد يممت صدر بعيري غيره بلدا
" والبيت الحرام" ، بيت الله الذي بمكة ، وقد بينت فيما مضى لم قيل له "الحرام" .
" يبتغون فضلا من ربهم " ، يعني : يلتمسون أرباحا في تجاراتهم من الله [ ص: 472 ] "ورضوانا" ، يقول : وأن يرضى الله عنهم بنسكهم .
وقد قيل : إن هذه الآية نزلت في رجل من بني ربيعة يقال له : "الحطم" .
ذكر من قال ذلك :
10958 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن قال : السدي أقبل الحطم بن هند البكري ، ثم أحد بني قيس بن ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، وخلف خيله خارجة من المدينة . فدعاه ، فقال : إلام تدعو ؟ فأخبره وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة ، يتكلم بلسان شيطان! فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم قال : انظر ، ولعلي أسلم ولي من أشاوره . فخرج من عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لقد دخل بوجه كافر ، وخرج بعقب غادر! فمر بسرح من سرح المدينة فساقه ، فانطلق به وهو يرتجز [ ص: 473 ]
قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر الوضم باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين ممسوح القدم
ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلد وأهدى ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه ، فنزلت هذه الآية ، حتى بلغ : "ولا آمين البيت الحرام" . قال له ناس من أصحابه : يا رسول الله ، خل بيننا وبينه ، فإنه صاحبنا! قال : إنه قد قلد! قالوا : إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية! فأبى عليهم ، فنزلت هذه الآية .
10959 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج عكرمة قال : قدم الحطم ، أخو بني ضبيعة بن ثعلبة البكري ، المدينة في عير له يحمل طعاما ، فباعه . ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 474 ] فبايعه وأسلم . فلما ولى خارجا ، نظر إليه فقال لمن عنده : لقد دخل علي بوجه فاجر ، وولى بقفا غادر! فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام ، وخرج في عير له تحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة . فلما سمع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تهيأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار ليقتطعوه في عيره ، فأنزل الله عز وجل : "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" ، الآية ، فانتهى القوم .
قال قوله : "ولا آمين البيت الحرام" ، قال : ينهى عن الحجاج أن تقطع سبلهم . قال : وذلك أن الحطم قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ليرتاد وينظر ، فقال : إني داعية قوم فاعرض علي ما تقول . قال له : أدعوك إلى الله أن تعبده ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم شهر رمضان ، وتحج البيت . قال الحطم : في أمرك هذا غلظة ، أرجع إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرت ، فإن قبلوه أقبلت معهم ، وإن أدبروا كنت معهم . قال له : ارجع . فلما خرج قال : لقد دخل علي بوجه كافر ، وخرج من عندي بعقبي غادر ، وما الرجل بمسلم ! فمر على سرح لأهل ابن جريج المدينة فانطلق به ، فطلبه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففاتهم ، وقدم اليمامة ، وحضر الحج ، فجهز خارجا ، وكان عظيم التجارة ، فاستأذنوا أن يتلقوه ويأخذوا ما معه ، فأنزل الله عز وجل : "لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام" .
10960 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : "ولا آمين البيت الحرام" الآية ، قال : هذا يوم الفتح ، جاء ناس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة ، فقال المسلمون : يا رسول الله ، إنما هؤلاء مشركون كمثل هؤلاء فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم . فنزل القرآن : "ولا آمين البيت الحرام " .
10961 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي [ ص: 475 ] قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "ولا آمين البيت الحرام" ، يقول : من توجه حاجا .
10962 - حدثني المثنى قال : حدثنا قال : أخبرنا عمرو بن عون هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : "ولا آمين البيت الحرام" ، يعني : الحاج .
10963 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ، عن عبيد الله بن موسى ، عن أبي جعفر الرازي الربيع بن أنس قال : جلسنا إلى مطرف بن الشخير وعنده رجل ، فحدثهم فقال : " ولا آمين البيت الحرام " ، قال : الذين يريدون البيت .
ثم اختلف أهل العلم فيما نسخ من هذه الآية ، بعد إجماعهم على أن منها منسوخا .
فقال بعضهم : نسخ جميعها .
ذكر من قال ذلك :
10964 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا جرير ، عن بيان ، عن عامر ، قال : لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية : " لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد " .
10965 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ، عن يزيد بن هارون سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " ، نسختها ، ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، [ سورة التوبة : 5 ] .
10966 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا [ ص: 476 ] الثوري ، عن بيان ، عن الشعبي قال : لم ينسخ من سورة المائدة غير هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " .
10967 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام" الآية ، قال : منسوخ . قال : كان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت ، فأمروا أن لا يقاتلوا في الأشهر الحرم ، ولا عند البيت ، فنسخها قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) .
10968 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو معاوية ، عن جويبر ، عن الضحاك : "لا تحلوا شعائر الله" إلى قوله : "ولا آمين البيت الحرام" ، قال : نسختها"براءة" : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) .
10969 - حدثني المثنى قال : حدثنا قال : حدثنا عمرو بن عون هشيم ، عن الضحاك ، مثله .
10970 - حدثنا ابن حميد قالا حدثنا وابن وكيع جرير ، عن منصور ، عن حبيب بن أبي ثابت : " لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد " ، قال : هذا شيء نهي عنه ، فترك كما هو .
10971 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام " ، قال : هذا كله منسوخ ، نسخ هذا أمره بجهادهم كافة .
[ ص: 477 ]
وقال آخرون : الذي نسخ من هذه الآية قوله : " ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام " .
ذكر من قال ذلك :
10972 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا قال : قرأت على عبدة بن سليمان ابن أبي عروبة فقال : هكذا سمعته من قتادة : نسخ من"المائدة" : " آمين البيت الحرام " ، نسختها"براءة" قال الله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، وقال : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ) [ سورة التوبة : 17 ] ، وقال : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [ سورة التوبة : 27 ] ، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر ، فنادى فيه بالأذان .
10973 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحجاج بن المنهال قال : حدثنا همام بن يحيى ، عن قتادة قوله : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " الآية ، قال : فنسخ منها : " آمين البيت الحرام " ، نسختها"براءة" ، فقال : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، فذكر نحو حديث عبدة .
10974 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن قال : نزل في شأن الحطم : "ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام" ، ثم نسخه الله فقال : ( السدي واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) [ سورة البقرة : 191 ] .
10975 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن [ ص: 478 ] علي ، عن ابن عباس قوله : " لا تحلوا شعائر الله " إلى قوله : "ولا آمين البيت" ، [ فكان المؤمنون والمشركون يحجون إلى البيت ] جميعا ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا أن يحج البيت أو يعرضوا له ، من مؤمن أو كافر ، ثم أنزل الله بعد هذا : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) ، وقال : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) ، وقال : ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) [ سورة التوبة : 18 ] ، فنفى المشركين من المسجد الحرام .
10976 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام" ، الآية ، قال : منسوخ ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج ، تقلد من السمر فلم يعرض له أحد . وإذا رجع ، تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد . وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت . وأمروا أن لا يقاتلوا في الأشهر الحرم ، ولا عند البيت ، فنسخها قوله : "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " .
وقال آخرون : لم ينسخ من ذلك شيء ، إلا القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلدونها من لحاء الشجر .
ذكر من قال ذلك :
10977 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام" ، الآية ، قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : هذا كله من عمل الجاهلية فعله وإقامته ، فحرم الله ذلك كله بالإسلام ، إلا لحاء القلائد ، فترك [ ص: 479 ] ذلك "ولا آمين البيت الحرام" ، فحرم الله على كل أحد إخافتهم .
10978 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، قول من قال : نسخ الله من هذه الآية قوله : " ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام " ، لإجماع الجميع على أن الله قد أحل وغيرها من شهور السنة كلها . وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه لحاء جميع أشجار الحرم ، لم يكن ذلك له أمانا من القتل ، إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان وقد بينا فيما مضى معنى"القلائد" في غير هذا الموضع . قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم
وأما قوله : " ولا آمين البيت الحرام " ، فإنه محتمل ظاهره : ولا تحلوا حرمة آمين البيت الحرام من أهل الشرك والإسلام ، لعموم جميع من أم البيت . وإذا احتمل ذلك ، فكان أهل الشرك داخلين في جملتهم ، فلا شك أن قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ، ناسخ له . لأنه غير جائز اجتماع الأمر بقتلهم وترك قتلهم في حال واحدة ووقت واحد . وفي إجماع الجميع على أن حكم الله في أهل الحرب من المشركين قتلهم ، أموا البيت الحرام أو البيت المقدس ، في أشهر الحرم وغيرها ما يعلم أن المنع من قتلهم إذا أموا البيت الحرام منسوخ . ومحتمل أيضا : ولا آمين البيت الحرام من أهل الشرك .
وأكثر أهل التأويل على ذلك .
وإن كان عني بذلك المشركون من أهل الحرب ، فهو أيضا لا شك منسوخ .
[ ص: 480 ]
وإذ كان ذلك كذلك وكان لا اختلاف في ذلك بينهم ظاهر ، وكان ما كان مستفيضا فيهم ظاهرا حجة فالواجب ، وإن احتمل ذلك معنى غير الذي قالوا ، التسليم لما استفاض بصحته نقلهم .