القول في تأويل قوله ( اليوم أكملت لكم دينكم )
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال بعضهم : يعني جل ثناؤه بقوله : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، اليوم [ ص: 518 ] أكملت لكم ، أيها المؤمنون ، فرائضي عليكم وحدودي ، وأمري إياكم ونهيي ، وحلالي وحرامي ، وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه في كتابي ، وتبياني ما بينت لكم منه بوحيي على لسان رسولي ، والأدلة التي نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم ، فأتممت لكم جميع ذلك ، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم . قالوا : وكان ذلك في يوم عرفة ، عام حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع . وقالوا : لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من الفرائض ، ولا تحليل شيء ولا تحريمه ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة .
ذكر من قال ذلك :
11080 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : "اليوم أكملت لكم دينكم" ، وهو الإسلام . قال : أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان ، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا ، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدا ، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا .
11081 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن قوله : "اليوم أكملت لكم دينكم" ، هذا نزل يوم السدي عرفة ، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات . فقالت : حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة ، فبينما نحن نسير ، إذ تجلى له أسماء بنت عميس جبريل صلى الله عليه وسلم على الراحلة ، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن ، فبركت ، فأتيته فسجيت عليه برداء كان علي .
11082 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن [ ص: 519 ] قال : مكث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية ، إحدى وثمانين ليلة ، قوله : " ابن جريج اليوم أكملت لكم دينكم " .
11083 - حدثنا سفيان قال : حدثنا ابن فضيل ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : لما نزلت : "اليوم أكملت لكم دينكم" ، وذلك يوم الحج الأكبر ، بكى عمر ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك ؟ قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذ كمل ، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص! فقال : صدقت .
11084 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ، عن أحمد بن بشير هارون بن أبي وكيع ، عن أبيه ، فذكر نحو ذلك .
وقال آخرون : معنى ذلك : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، حجكم ، فأفردتم بالبلد الحرام تحجونه ، أنتم أيها المؤمنون ، دون المشركين ، لا يخالطكم في حجكم مشرك .
ذكر من قال ذلك :
11085 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا يحيى بن أبي غنية ، عن أبيه ، عن الحكم : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، قال : أكمل لهم دينهم : أن حجوا ولم يحج معهم مشرك .
[ ص: 520 ]
11086 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، قال : أخلص الله لهم دينهم ، ونفى المشركين عن البيت .
11087 - حدثنا أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا قيس ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، قال : تمام الحج ، ونفي المشركين عن البيت .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يقال : إن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينهم ، بإفرادهم بالبلد الحرام وإجلائه عنه المشركين ، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطهم المشركون .
فأما الفرائض والأحكام ، فإنه قد اختلف فيها : هل كانت أكملت ذلك اليوم ، أم لا ؟ فروي عن ابن عباس ما ذكرنا عنهما قبل . والسدي
وروي عن أن آخر آية نزلت من القرآن : ( البراء بن عازب يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) [ سورة النساء : 176 ] .
ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن [ ص: 521 ] قبض ، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعا . فإذ كان ذلك كذلك وكان قوله : ( يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ) آخرها نزولا وكان ذلك من الأحكام والفرائض كان معلوما أن معنى قوله : " اليوم أكملت لكم دينكم " ، على خلاف الوجه الذي تأوله من تأوله أعني : كمال العبادات والأحكام والفرائض .
فإن قال قائل : فما جعل قول من قال : "قد نزل بعد ذلك فرض" ، أولى من قول من قال : "لم ينزل" ؟
قيل : لأن الذي قال : "لم ينزل " ، مخبر أنه لا يعلم نزول فرض ، والنفي لا يكون شهادة ، والشهادة قول من قال : "نزل" . وغير جائز دفع خبر الصادق فيما أمكن أن يكون فيه صادقا .