القول في تأويل قوله ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه )
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله وبرسوله : "يا أيها الذين آمنوا " ، أي : صدقوا لله ورسوله ، وأقروا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم" من يرتد منكم عن دينه " ، يقول : من يرجع منكم عن دينه الحق الذي [ ص: 410 ] هو عليه اليوم ، فيبدله ويغيره بدخوله في الكفر ، إما في اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من صنوف الكفر ، فلن يضر الله شيئا ، وسيأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ، يقول : فسوف يجيء الله بدلا منهم ، المؤمنين الذين لم يبدلوا ولم يغيروا ولم يرتدوا ، بقوم خير من الذين ارتدوا وبدلوا دينهم ، يحبهم الله ويحبون الله .
وكان هذا الوعيد من الله لمن سبق في علمه أنه سيرتد بعد وفاة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . وكذلك وعده من وعد من المؤمنين ما وعده في هذه الآية ، لمن سبق له في علمه أنه لا يبدل ولا يغير دينه ، ولا يرتد . فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، ارتد أقوام من أهل الوبر ، وبعض أهل المدر ، فأبدل الله المؤمنين بخير منهم كما قال تعالى ذكره ، ووفى للمؤمنين بوعده ، وأنفذ فيمن ارتد منهم وعيده .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
12177 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني ، عن عبد الله بن عياش أبي صخر ، عن محمد بن كعب : أن عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يوما ، وعمر أمير المدينة يومئذ ، فقال : يا أبا حمزة ، آية أسهرتني البارحة ! قال محمد : وما هي ، أيها الأمير؟ قال : قول الله : " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه " حتى بلغ " ولا يخافون لومة لائم " . فقال محمد : أيها الأمير ، إنما عنى الله بالذين آمنوا ، الولاة من قريش ، من يرتد عن الحق .
[ ص: 411 ] ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أتى الله بهم المؤمنين ، وأبدل المؤمنين مكان من ارتد منهم .
فقال بعضهم : هو أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة حتى أدخلوهم من الباب الذي خرجوا منه .
ذكر من قال ذلك :
12178 - حدثنا قال ، حدثنا هناد بن السري ، عن حفص بن غياث الفضل بن دلهم ، عن الحسن في قوله : " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ، قال : هذا والله أبو بكر وأصحابه .
12179 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن الفضل بن دلهم ، عن الحسن ، مثله .
12180 - حدثنا هناد قال ، حدثنا ، عن عبدة بن سليمان جويبر ، عن سهل ، عن الحسن في قوله : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ، قال : أبو بكر وأصحابه .
12181 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا حسين بن علي ، عن أبي موسى قال : قرأ الحسن : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ، قال : هي والله لأبي بكر وأصحابه .
12182 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال ، حدثنا ، عن أحمد بن بشير هشام ، [ ص: 412 ] عن الحسن في قوله : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ، قال : نزلت في أبي بكر وأصحابه .
12183 - حدثني علي بن سعيد بن مسروق الكندي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم " ، قال : هو أبو بكر وأصحابه . لما ارتد من ارتد من العرب عن الإسلام ، جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردهم إلى الإسلام .
12184 - حدثنا بشر قال ، حدثنا قال ، حدثنا يزيد بن زريع سعيد ، عن قتادة : " من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ، إلى قوله : "والله واسع عليم " ، أنزل الله هذه الآية وقد علم أن سيرتد مرتدون من الناس ، فلما قبض الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد : أهل المدينة ، وأهل مكة ، وأهل البحرين من عبد القيس قالوا : نصلي ولا نزكي ، والله لا تغصب أموالنا! فكلم أبو بكر في ذلك فقيل له : إنهم لو قد فقهوا لهذا أعطوها أو : أدوها فقال : لا والله ، لا أفرق بين شيء جمع الله بينه ، ولو منعوا عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه! [ ص: 413 ] فبعث الله عصابة مع أبي بكر ، فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم ، حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة ، فقاتلهم حتى أقروا بالماعون وهي الزكاة صغرة أقمياء . فأتته وفود العرب ، فخيرهم بين خطة مخزية أو حرب مجلية . فاختاروا الخطة المخزية ، وكانت أهون عليهم أن يقروا : أن قتلاهم في النار ، وأن قتلى المؤمنين في الجنة ، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردوه عليهم ، وما أصاب المسلمون لهم من مال فهو لهم حلال .
12185 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن قوله : " ابن جريج يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ، قال : ابن جريج أبو بكر . ارتدوا حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاتلهم
12186 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا [ ص: 414 ] قال ، أخبرنا عبد الله بن هشام سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن أبي أيوب ، عن علي في قوله : " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه " ، قال : علم الله المؤمنين ، ووقع معنى السوء على الحشو الذي فيهم من المنافقين ومن في علمه أن يرتدوا ، قال : " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله " ، المرتدة في دورهم " بقوم يحبهم ويحبونه " ، بأبي بكر وأصحابه .
وقال آخرون : يعني بذلك قوما من أهل اليمن . وقال بعض من قال ذلك منهم : هم رهط ، أبي موسى الأشعري . عبد الله بن قيس
ذكر من قال ذلك :
12188 - حدثنا قال ، حدثنا محمد بن المثنى محمد بن جعفر قال ، حدثنا شعبة ، عن ، عن سماك بن حرب عياض الأشعري قال : لما نزلت هذه الآية ، " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ، [ ص: 415 ] قال : أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى بشيء كان معه ، فقال : هم قوم هذا !
12189 - حدثنا قال ، حدثنا ابن المثنى أبو الوليد قال ، حدثنا شعبة ، عن ، قال : سمعت سماك بن حرب عياضا يحدث أبي موسى : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ، قال : يعني قوم أبي موسى . عن
12190 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن شعبة قال أبو السائب : قال أصحابنا : هو : "عن " ، وأنا لا أحفظ " سماك بن حرب سماكا " عن عياض الأشعري ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هم قوم هذا ، يعني أبا موسى .
12191 - حدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا ابن إدريس ، عن شعبة ، عن سماك ، عن عياض الأشعري ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى : هم قوم هذا ، في قوله : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " .
12192 - حدثنا مجاهد بن موسى قال ، حدثنا يزيد قال ، أخبرنا شعبة ، عن قال : سمعت سماك بن حرب عياضا الأشعري يقول : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هم قومك يا أبا موسى ! أو قال : هم قوم هذا يعني أبا موسى . [ ص: 416 ] لما نزلت : "
12193 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ، عن أبو سفيان الحميري حصين ، عن عياض أو : ابن عياض " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ، قال : هم أهل اليمن .
12194 - حدثنا محمد بن عوف قال ، حدثنا أبو المغيرة قال ، حدثنا صفوان قال ، حدثنا عبد الرحمن بن جبير ، عن شريح بن عبيد قال : لما أنزل الله : " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه " إلى آخر الآية ، قال عمر : أنا وقومي هم يا رسول الله ؟ قال : " لا بل هذا وقومه ! يعني أبا موسى الأشعري .
[ ص: 417 ] وقال آخرون منهم : بل هم أهل اليمن جميعا .
ذكر من قال ذلك :
12195 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " يحبهم ويحبونه " ، قال : أناس من أهل اليمن .
12196 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
12197 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن إدريس ، عن ليث ، عن مجاهد قال : هم قوم سبأ .
12198 - حدثنا مطر بن محمد الضبي قال ، حدثنا أبو داود قال ، أخبرنا شعبة قال ، أخبرني من سمع قال : هم شهر بن حوشب أهل اليمن .
12199 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، أخبرني ، عن عبد الله بن عياش أبي صخر ، عن : أن محمد بن كعب القرظي عمر بن عبد العزيز أرسل إليه يوما ، وهو أمير المدينة ، يسأله عن ذلك : فقال محمد : "يأتي الله بقوم " ، وهم أهل اليمن ! قال عمر : يا ليتني منهم! قال : آمين !
وقال آخرون : هم أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذكر من قال ذلك :
12200 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، [ ص: 418 ] حدثنا أسباط ، عن : " السدي يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ، يزعم أنهم الأنصار .
وتأويل الآية على قول من قال : عنى الله بقوله : " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " ، أبا بكر وأصحابه في قتالهم أهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها الذين آمنوا ، من يرتد منكم عن دينه فلن يضر الله شيئا ، وسيأتي الله من ارتد منكم عن دينه بقوم يحبهم ويحبونه ، ينتقم بهم منهم على أيديهم . وبذلك جاء الخبر والرواية عن بعض من تأول ذلك كذلك :
12201 - حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا قال ، أخبرنا عبد الله بن هشام سيف بن عمر ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي في قوله : " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم " ، قال يقول : فسوف يأتي الله المرتدة في دورهم "بقوم يحبهم ويحبونه " ، بأبي بكر وأصحابه .
وأما على قول من قال : عنى الله بذلك أهل اليمن ، فإن تأويله : يا أيها الذين آمنوا ، من يرتد منكم عن دينه ، فسوف يأتي الله المؤمنين الذين لم يرتدوا ، بقوم يحبهم ويحبونه ، أعوانا لهم وأنصارا . وبذلك جاءت الرواية عن بعض من كان يتأول ذلك كذلك .
12202 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ،
عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فأصبحوا خاسرين ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه " الآية وعيد من الله أنه من ارتد منكم ، أنه سيستبدل خيرا منهم .
وأما على قول من قال : عنى بذلك الأنصار ، فإن تأويله في ذلك نظير تأويل من تأوله أنه عني به أبو بكر وأصحابه .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، ما روي به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنهم أهل اليمن ، قوم . ولولا الخبر الذي روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر الذي روي عنه ، ما كان القول عندي في ذلك إلا قول من قال : "هم أبي موسى الأشعري أبو بكر وأصحابه" . وذلك أنه لم يقاتل قوما كانوا أظهروا الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ارتدوا على أعقابهم كفارا ، غير أبي بكر ومن كان معه ممن قاتل أهل الردة معه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكنا تركنا القول في ذلك للخبر الذي روي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن كان صلى الله عليه وسلم معدن البيان عن تأويل ما أنزل الله من وحيه وآي كتابه .
فإن قال لنا قائل : فإن كان القوم الذين ذكر الله أنه سيأتي بهم عند ارتداد من ارتد عن دينه ، ممن كان قد أسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل اليمن ، فهل كان أهل اليمن أيام قتال أبي بكر رضي الله عنه أهل الردة أعوان أبي بكر على قتالهم ، فتستجيز أن توجه تأويل الآية إلى ما وجهت إليه؟ [ ص: 420 ] أم لم يكونوا أعوانا له عليهم ، فكيف استجزت أن توجه تأويل الآية إلى ذلك ، وقد علمت أنه لا خلف لوعد الله؟
قيل له : إن الله تعالى ذكره لم يعد المؤمنين أن يبدلهم بالمرتدين منهم يومئذ خيرا من المرتدين لقتال المرتدين ، وإنما أخبر أنه سيأتيهم بخير منهم بدلا منهم ، فقد فعل ذلك بهم قريبا غير بعيد ، فجاء بهم على عهد عمر ، فكان موقعهم من الإسلام وأهله أحسن موقع ، وكانوا أعوان أهل الإسلام وأنفع لهم ممن كان ارتد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من طغام الأعراب وجفاة أهل البوادي الذين كانوا على أهل الإسلام كلا لا نفعا؟
قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة قوله : " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه " .
فقرأته قرأة أهل المدينة : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه ) ، بإظهار التضعيف بدالين ، مجزومة "الدال " الآخرة . وكذلك ذلك في مصاحفهم .
وأما قرأة أهل العراق ، فإنهم قرأوا ذلك : ( من يرتد منكم عن دينه ) بالإدغام ، بدال واحدة ، وتحريكها إلى الفتح ، بناء على التثنية ، لأن المجزوم الذي يظهر تضعيفه في الواحد ، إذا ثني أدغم . ويقال للواحد : " اردد يا فلان إلى فلان حقه " ، فإذا ثني قيل : "ردا إليه حقه " ، ولا يقال : "ارددا " ، وكذلك في الجمع : "ردوا " ، ولا يقال : "ارددوا " ، فتبني العرب أحيانا الواحد على الاثنين ، وتظهر [ ص: 421 ] أحيانا في الواحد التضعيف لسكون لام الفعل . وكلتا اللغتين فصيحة مشهورة في العرب .
قال أبو جعفر : والقراءة في ذلك عندنا على ما هو به في مصاحفنا ومصاحف أهل المشرق ، بدال واحدة مشددة ، بترك إظهار التضعيف ، وبفتح"الدال " ، للعلة التي وصفت .