القول في تأويل قوله ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد )
قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - : صير الله الكعبة البيت الحرام قواما للناس الذين لا قوام لهم من رئيس يحجز قويهم عن ضعيفهم ، ومسيئهم عن محسنهم ، وظالمهم عن مظلومهم " والشهر الحرام والهدي والقلائد " فحجز بكل واحد من ذلك بعضهم عن بعض ، إذ لم يكن لهم قيام غيره ، وجعلها معالم لدينهم ، ومصالح أمورهم .
و " الكعبة " سميت فيما قيل " كعبة " لتربيعها . [ ص: 90 ]
ذكر من قال ذلك :
12780 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : إنما سميت " الكعبة " لأنها مربعة .
12781 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ، عن هاشم بن القاسم أبي سعيد المؤدب ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة قال : إنما سميت " الكعبة " لتربيعها .
وقيل " قياما للناس " بالياء ، وهو من ذوات الواو ، لكسرة القاف ، وهي " فاء " الفعل ، فجعلت " العين " منه بالكسرة " ياء " كما قيل في مصدر : " قمت " " قياما " و " صمت " " صياما " فحولت " العين " من الفعل : وهي " واو " " ياء " لكسرة فائه . وإنما هو في الأصل : " قمت قواما " و " صمت صواما " وكذلك قوله : " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس " فحولت واوها ياء ، إذ هي " قوام " .
وقد جاء ذلك من كلامهم مقولا على أصله الذي هو أصله قال الراجز :
قوام دنيا وقوام دين
فجاء به بالواو على أصله .
وجعل - تعالى ذكره - الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد قواما لمن كان يحرم ذلك من العرب ويعظمه ، بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر تباعه . [ ص: 91 ]
وأما " الكعبة " فالحرم كله . وسماها الله تعالى " حراما " لتحريمه إياها أن يصاد صيدها أو يختلى خلاها ، أو يعضد شجرها ، وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل .
وقوله : " والشهر الحرام والهدي والقلائد " يقول - تعالى ذكره - : وجعل الشهر الحرام والهدي والقلائد أيضا قياما للناس ، كما جعل الكعبة البيت الحرام لهم قياما .
و " الناس " الذين جعل ذلك لهم قياما ، مختلف فيهم .
فقال بعضهم : جعل الله ذلك في الجاهلية قياما للناس كلهم .
وقال بعضهم : بل عنى به العرب خاصة .
وبمثل الذي قلنا في تأويل " القوام " قال أهل التأويل .
ذكر من قال : عنى الله - تعالى ذكره - بقوله : جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ، القوام ، على نحو ما قلنا .
12782 - حدثنا هناد قال : حدثنا ابن أبي زائدة قال : أخبرنا من سمع خصيفا يحدث ، عن مجاهد في : جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ، قال : قواما للناس .
12783 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير : قياما للناس ، قال : صلاحا لدينهم .
12784 - حدثنا هناد قال : حدثنا ابن أبي زائدة قال : أخبرنا داود ، عن ، عن ابن جريج مجاهد في : جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ، قال : [ ص: 92 ] حين لا يرجون جنة ولا يخافون نارا ، فشدد الله ذلك بالإسلام .
12785 - حدثني هناد قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن إسرائيل ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير قوله : جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ، قال : شدة لدينهم .
12786 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد بن جبير مثله .
12787 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس " قال : قيامها ، أن يأمن من توجه إليها .
12788 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد " يعني قياما لدينهم ، ومعالم لحجهم .
12789 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : " السدي جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد " جعل الله هذه الأربعة قياما للناس ، هو قوام أمرهم .
قال أبو جعفر : وهذه الأقوال وإن اختلفت من قائليها ألفاظها ، فإن معانيها آيلة إلى ما قلنا في ذلك ، من أن " القوام " للشيء ، هو الذي به صلاحه ، كما الملك الأعظم ، قوام رعيته ومن في سلطانه ، لأنه مدبر أمرهم ، وحاجز ظالمهم عن مظلومهم ، والدافع عنهم مكروه من بغاهم وعاداهم . وكذلك كانت الكعبة والشهر الحرام والهدي والقلائد ، قوام أمر العرب الذي كان به صلاحهم [ ص: 93 ] في الجاهلية ، وهي في الإسلام لأهله معالم حجهم ومناسكهم ، ومتوجههم لصلاتهم ، وقبلتهم التي باستقبالها يتم فرضهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قالت جماعة أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
12790 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا جامع بن حماد قال : حدثنا قال : حدثنا يزيد بن زريع سعيد ، عن قتادة قوله : " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد " حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية ، فكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يقرب . وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه . وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر فأحمته ومنعته من الناس . وكان إذا نفر تقلد قلادة من الإذخر أو من لحاء السمر ، فمنعته من الناس حتى يأتي أهله ، حواجز أبقاها الله بين الناس في الجاهلية .
12791 - حدثنا يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ، قال : كان الناس كلهم فيهم ملوك تدفع بعضهم عن بعض . قال : ولم يكن في العرب ملوك تدفع بعضهم عن بعض ، فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قياما ، يدفع بعضهم عن بعض به ، والشهر الحرام كذلك يدفع الله بعضهم عن بعض بالأشهر الحرم والقلائد . قال : ويلقى الرجل قاتل أخيه أو ابن عمه فلا يعرض له . وهذا كله قد نسخ . [ ص: 94 ]
12792 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " والقلائد " كان ناس يتقلدون لحاء الشجر في الجاهلية إذا أرادوا الحج ، فيعرفون بذلك .
وقد أتينا على البيان عن ذكر : الشهر الحرام ، والهدي ، والقلائد ، فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .