قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - : ثم لم يكن قولهم إذ قلنا لهم : " أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون " إجابة منهم لنا عن سؤالنا إياهم ذلك إذ فتناهم فاختبرناهم ، [ ص: 298 ] " إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " كذبا منهم في أيمانهم على قيلهم ذلك .
ثم اختلف القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته جماعة من قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : " ثم لم تكن فتنتهم " بالتاء بالنصب . بمعنى : لم يكن اختبارناهم لهم إلا قيلهم " والله ربنا ما كنا مشركين " غير أنهم يقرءون " تكن " بالتاء على التأنيث . وإن كانت للقول لا للفتنة ؛ لمجاورته الفتنة ، وهي خبر . وذلك عند أهل العربية شاذ غير فصيح في الكلام . وقد روي بيت للبيد بنحو ذلك ، وهو قوله :
فمضى وقدمها وكانت عادة منه إذا هي عردت إقدامها
فقال : " وكانت " بتأنيث " الإقدام " لمجاورته قوله : " عادة " .
وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفيين : " ثم لم يكن " بالياء " فتنتهم " بالنصب ( إلا أن قالوا ) بنحو المعنى الذي قصده الآخرون الذين ذكرنا قراءتهم غير أنهم ذكروا " يكون " لتذكير " أن " .
قال أبو جعفر : وهذه القراءة عندنا أولى القراءتين بالصواب ؛ لأن " أن " أثبت في المعرفة من " الفتنة " . [ ص: 299 ]
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " ثم لم تكن فتنتهم " .
فقال بعضهم : معناه : ثم لم يكن قولهم .
ذكر من قال ذلك :
13134 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر قال : قال قتادة في قوله : " ثم لم تكن فتنتهم " قال : مقالتهم . قال معمر : وسمعت غير قتادة يقول : معذرتهم .
13135 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ابن عباس قوله : " ثم لم تكن فتنتهم " قال : قولهم .
13136 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبى ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا " الآية ، فهو كلامهم " قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " .
13137 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول : حدثنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك : " ثم لم تكن فتنتهم " يعني : كلامهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : معذرتهم .
ذكر من قال ذلك :
13138 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة : " ثم لم تكن فتنتهم " قال : معذرتهم .
13139 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " يقول : اعتذارهم بالباطل والكذب . [ ص: 300 ]
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : معناه : ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم ، اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله " إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " فوضعت " الفتنة " موضع " القول " لمعرفة السامعين معنى الكلام . وإنما " الفتنة " الاختبار والابتلاء ولكن لما كان الجواب من القوم غير واقع هنالك إلا عند الاختبار وضعت " الفتنة " التي هي الاختبار موضع الخبر عن جوابهم ومعذرتهم .
واختلفت القرأة أيضا في قراءة قوله : " إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " .
فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض الكوفيين والبصريين : " والله ربنا " خفضا على أن " الرب " نعت لله .
وقرأ ذلك جماعة من التابعين : " والله ربنا " بالنصب بمعنى : والله يا ربنا . وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة .
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين عندي بالصواب في ذلك قراءة من قرأ : " والله ربنا " بنصب " الرب " بمعنى : يا ربنا ؛ وذلك أن هذا جواب من المسئولين المقول لهم : " أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون " ؟ وكان من جواب القوم لربهم : والله يا ربنا ما كنا مشركين فنفوا أن يكونوا قالوا ذلك في الدنيا . يقول الله - تعالى ذكره - لمحمد - صلى الله عليه وسلم - : انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون . [ ص: 301 ]
ويعني بقوله : " ما كنا مشركين " ما كنا ندعو لك شريكا ، ولا ندعو سواك .