القول في تأويل قوله ( قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ( 33 ) )
قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : " قد نعلم " يا محمد ، إنه ليحزنك الذي يقول المشركون ، وذلك قولهم له : إنه كذاب " فإنهم لا يكذبونك " .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك
[ فقرأته جماعة من أهل الكوفة : ( فإنهم لا يكذبونك ) بالتخفيف ] ، بمعنى : إنهم لا يكذبونك فيما أتيتهم به من وحي الله ، ولا يدفعون أن يكون ذلك صحيحا ، بل يعلمون صحته ، ولكنهم يجحدون حقيقته قولا فلا يؤمنون به . [ ص: 331 ]
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يحكي عن العرب أنهم يقولون : " أكذبت الرجل " إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه . قال : ويقولون : " كذبته " إذا أخبرت أنه كاذب .
وقرأته جماعة من قرأة المدينة والعراقيين والكوفة والبصرة : فإنهم لا يكذبونك بمعنى : أنهم لا يكذبونك علما ، بل يعلمون أنك صادق ولكنهم يكذبونك قولا عنادا وحسدا .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان ، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرأة ، ولكل واحدة منهما في الصحة مخرج مفهوم .
وذلك أن المشركين لا شك أنه كان منهم قوم يكذبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويدفعونه عما كان الله - تعالى ذكره - خصه به من النبوة ، فكان بعضهم يقول : " هو شاعر " وبعضهم يقول : " هو كاهن " وبعضهم يقول : " هو مجنون " وينفي جميعهم أن يكون الذي أتاهم به من وحي السماء ، ومن تنزيل رب العالمين ، قولا . وكان بعضهم قد تبين أمره وعلم صحة نبوته ، وهو في ذلك يعاند ويجحد نبوته حسدا له وبغيا .
فالقارئ : ( فإنهم لا يكذبونك ) بمعنى أن الذين كانوا يعرفون [ ص: 332 ] حقيقة نبوتك وصدق قولك فيما تقول ، يجحدون أن يكون ما تتلوه عليهم من تنزيل الله ومن عند الله ، قولا - وهم يعلمون أن ذلك من عند الله علما صحيحا - مصيب ، لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم من هذه صفته .
وفي قول الله تعالى في هذه السورة : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم [ سورة المائدة : 20 ] ، أوضح الدليل على أنه قد كان فيهم المعاند في جحود نبوته - صلى الله عليه وسلم - ، مع علم منهم به وبصحة نبوته .
وكذلك القارئ : ( فإنهم لا يكذبونك ) - بمعنى : أنهم لا يكذبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا عنادا ، لا جهلا بنبوته وصدق لهجته - مصيب ، لما ذكرنا من أنه قد كان فيهم من هذه صفته .
وقد ذهب إلى كل واحد من هذين التأويلين جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال : معنى ذلك : فإنهم لا يكذبونك ولكنهم يجحدون الحق على علم منهم بأنك نبي لله صادق .
13190 - حدثنا هناد قال : حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله : " قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك " قال : جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو جالس حزين ، فقال له : ما يحزنك ؟ فقال : كذبني هؤلاء ! قال فقال له جبريل : إنهم لا يكذبونك ، هم يعلمون أنك صادق ، " ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " .
13191 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل ، عن [ ص: 333 ] أبي صالح قال : جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس حزين ، فقال له : ما يحزنك ؟ فقال : كذبني هؤلاء ! فقال له جبريل : إنهم لا يكذبونك ، إنهم ليعلمون أنك صادق ، " ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " . جاء
13192 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : " ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " قال : يعلمون أنك رسول الله ويجحدون .
13193 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط : عن في قوله : " السدي قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة : يا بني زهرة ، إن محمدا ابن أختكم ، فأنتم أحق من كف عنه ، فإنه إن كان نبيا لم تقاتلوه اليوم ، وإن كان كاذبا كنتم أحق من كف عن ابن أخته ! قفوا هاهنا حتى ألقى أبا الحكم فإن غلب محمد [ - صلى الله عليه وسلم - ] رجعتم سالمين ، وإن غلب محمد فإن قومكم لا يصنعون بكم شيئا فيومئذ سمي " الأخنس " وكان اسمه " أبي " فالتقى الأخنس وأبو جهل ، فخلا الأخنس بأبي جهل ، فقال : يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد ، أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس هاهنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا ! فقال أبو جهل : ويحك ، والله إن محمدا لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله : " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " " فآيات الله " محمد - صلى الله عليه وسلم - . [ ص: 334 ]
13194 - حدثني الحارث بن محمد قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا قيس ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير : " فإنهم لا يكذبونك " قال : ليس يكذبون محمدا ، ولكنهم بآيات الله يجحدون .
ذكر من قال ذلك بمعنى : فإنهم لا يكذبونك ، ولكنهم يكذبون ما جئت به .
13195 - حدثنا قال : حدثنا محمد بن بشار عبد الرحمن بن مهدي قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن ناجية قال : قال أبو جهل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما نتهمك ، ولكن نتهم الذي جئت به ! فأنزل الله - تعالى ذكره - : " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " .
13196 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا ، عن يحيى بن آدم سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن ناجية بن كعب : أبا جهل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنا لا نكذبك ، ولكن نكذب الذي جئت به ! فأنزل الله - تعالى ذكره - : " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " . أن
وقال آخرون : معنى ذلك ، فإنهم لا يبطلون ما جئتهم به .
ذكر من قال ذلك :
13197 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب : " فإنهم لا يكذبونك " قال : لا يبطلون ما في يديك .
وأما قوله : " ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " فإنه يقول : ولكن المشركين بالله ، بحجج الله وآي كتابه ورسوله يجحدون ، فينكرون صحة ذلك كله .
وكان يقول : " الآيات " في هذا الموضع ، معني بها السدي محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه قبل .